تكشف المطالعة المدققة للشهادة السرية، التى أدلت بها رئيسة الوزراء جولدا مائير أثناء حرب أكتوبر أمام لجنة أجرانات عدة أمور تستحق التأمل والدراسة، أولها أن لجنة التحقيق المشكلة من رئيس المحكة العليا القاضى أجرانات ورؤساء أركان سابقين ورؤساء مخابرات لم تكن محايدة فى تحقيقاتها، بل كانت مهتمة بإنقاذ هيبة الحكم فى إسرائيل وتبرئة رئيسة الوزراء التى تعد من الزعامات التاريخية التى تتلمذت على أيدى بن جوريون، مؤسس دولة إسرائيل، لقد تبين هذا فى التساهل الذى أبداه أعضاء اللجنة وعدم استيقاف جولدا مائير لتمحيص أقوالها، بل مساعدتها فى توجيه المحاضر الرسمية وتقارير المخابرات فى الاتجاه الذى يثبت براءتها، من المهم أن نتذكر أن هذا التحقيق السرى قد جرى بعد الحرب فى ديسمبر 1973 واستمر فى جزء من عام 1974، ومع ذلك فإنه لم ينشر إلا فى الذكرى الأربعين للحرب، ويمكن للقارئ مطالعة النصوص كاملة مترجمة عن اللغة العبرية فى الكتاب الذى يصدره المركز القومى للترجمة وينشر الجزء الأول منه فى ذكرى انتصارنا هذا العام، تحت إشرافى العلمى.
قام رئيس المخابرات العسكرية الجنرال إلياهو زاعيرا والشهير فى إسرائيل باسم إيلى زاعيرا بعد عشرين عاماً من الهزيمة فى عام 1993 بنشر مذكراته التى حاول فيها إبراء نفسه من المسؤولية، خاصة أن لجنة التحقيق أوصت بعزله من منصبه عام 1974، إن المقارنة بين ما قاله زاعيرا واتجاه التحقيق مع جولدا مائير وأيضاً مع وزير دفاعها موشيه ديان، وهو من زعامات حزب العمل المؤسس للدولة، تؤكد صدق ما يقوله عن سلوك اللجنة وتدبير كل من جولدا مائير وديان، إن هذا هو الأمر الثانى الذى تكشفه وتوكده مطالعة النصوص الكاملة وفحواه أن هذه الزعيمة السياسية كانت مشغولة بمستقبله السياسى وتبرئة نفسها أمام اللجنة.
الضعف الإنسانى للزعامات
قال زعيرا فى منتصف التسعينيات كلاما كان يصعب علىّ تصديقه دون مطالعة النصوص الكاملة للتحقيقات لمساسه بشخصيات قيادية ذات أدوار بارزة، قال إن رئيسة الوزراء ووزير الدفاع ديان لم يكن لهما من هدف أثناء مثولهما أمام لجنة التحقيق سوى الحفاظ على مناصبهما السياسية ولم يستهدفا الحقيقة، وأضاف أن كلاً منهما استعان بمحاميه ورجال قضاء لترتيب أقوالهما بحيث يفلتان من العقاب، بين زاعيرا أيضاً أن الاثنين قد خدعاه هو ورئيس الأركان وسائر القادة العسكريين عندما طمأنا الجميع أن البراءة ستكون نصيب جميع المسؤولين فى حين أن أقوالهما تم ترتيبها على أساس تحميل القادة العسكريين بصورة مطلقة مسؤولية الأخطاء الاستراتيجية التى سبقت الحرب وأيضاً أوجه التقصير التى شابت عملية تحضير الجيش للحرب.
إن نص الشهادة يؤكد صحة ما قاله زاعيرا، ذلك أنه بالإضافة إلى المجاملة من جانب اللجنة لجولدا مائير، صدرت توصيات اللجنة لتبرئها من تحمل أى مسؤولية، بل تشيد بأدائها فى إدارة الحرب، لقد رفض الشعب هذا القرار بالبراءة واندلعت مظاهرات غاضبة أجبرت جولدا مائير ووزير دفاعها على الاستقالة، لقد كان الموضوعان المحددان لاستجوابها كالتالى: الأول المعلومات التى كانت بين يديها فى يوم 13/9/1973 عندما تم إسقاط 13 طائرة سورية بواسطة سلاح الجو الإسرائيلى فى المجال الجوى السورى، وحدد لها رئيس اللجنة نطاق المعلومات بأنها المعلومات الخاصة بتحركات العدو المصرى والسورى ونواياه لشن الحرب، أما الموضوع الثانى فهو استعداد الجيش الإسرائيلى منذ التاريخ المذكور والإجراءات الخاصة التى اتخذت تحسباً لرد الفعل السورى وحتى يوم 6 أكتوبر، بالإضافة إلى الخطط الحربية الأساسية التى كانت لدى الجيش منذ ما قبل 13 سبتمبر، بعد ذلك أوضح القاضى أجرانات أن عليها البدء بالموضوع الأول وأفهمها أن اللجنة قد تلقت جميع محاضر اجتماعات الحكومة وهيئة الأركان من سكرتيرها العسكرى العميد ليئور، وأن الأعضاء قد قرأوها وبالتالى طلب منها القاضى أن تتناول هذه المحاضر وتقارير المخابرات بالدرجة التى تراها مناسبة.
أقوال جولدا مائير وأسئلة أعضاء اللجنة عن الموقف من 13 سبتمبر 1973.
قالت رئيسة الوزراء إن الاشتباك الجوى فى سوريا وإسقاط 13 طائرة سورية حدث يوم الخميس 13 سبتمبر، بعد ذلك عقدت الحكومة يوم الأحد 16 سبتمبر جلستها وكالعادة فى أعقاب أحداث من هذا النوع تتم دعوة رئيس الأركان بواسطة وزير الدفاع، وأحياناً رئيس المخابرات العسكرية، أما فى هذا الاجتماع فقد حضر رئيس الأركان ووزير الدفاع فقط، أشارت إلى أنه فى هذا الاجتماع قدم رئيس الأركان الفريق دافيد أليعازر تقديراته حول ما يمكن أن يحدث من جانب السوريين وما يمكن توقعه وما لا يمكن أن يكون معقولاً، وأشارت إلى أن محضر الحكومة بين يديها وفيه ما قاله رئيس الأركان فيما يتصل بردود الفعل المحتملة، وأيضاً ما قاله وزير الدفاع موشيه ديان فى نفس هذا الاجتماع.
استشهاد جولدا مائير بتقرير رئيس الأركان عن رد الفعل السورى المحتمل: بعد ذلك استشهدت جولدا مائير بما قاله رئيس الأركان عن استبعاد حرب شاملة من جانب السوريين ردا على إسقاط طائراتهم، حيث قال «بالنسبة لاحتمالات رد الفعل من جانب السوريين قدرنا فى يوم الاشتباك أنه لن يكون هناك رد فعل سريع أو مبادرة من جانبهم، لقد اعتقدت أنه من غير المتوقع قيامهم على الفور بأى عملية قصف مدفعى على أى مستوطنة أو أى عمل عدوانى فى هضبة الجولان، وبالفعل فحتى يوم انعقاد جلسة الحكومة لم يحدث رد فعل من هذا النوع من جانب السوريين، وواصل رئيس الأركان قائلاً إن ما يمكن أن يحدث ونحن جاهزون له، هو أن يهاجم السوريون طائراتنا التى تطير فى سلام فوق هضبة الجولان، أو أن تقع عملية عادية بمبادرة من جانبهم أو أن يبدأوا بصاروخ ثم ينزلق الأمر لعملية فى هضبة الجولان، وأضاف رئيس الأركان الذى تتلو جولدا مائير أقواله أمام اللجنة من نص محضر الجلسة «لقد اتخذنا كل وسائط الحيطة كى لا نعطيهم ذريعة لمثل هذه الأمور، وأنا أعتقد أن هذا هو الاحتمال الوحيد أو المنطقى للغاية الذى سيحاولون الرد به».
وأيضاً استشهاد جولدا بكلام وزير الدفاع وملاحظته على تقدير رئيس الأركان مع استبعاد الحرب الشاملة: بعد ذلك انتقلت رئيسة الوزراء إلى الاستشهاد بكلام وزير الدفاع موشيه ديان فقرأت من المحضر قول ديان «لى ملاحظة واحدة، أنا أفترض أن السوريين سيحاولون مع ذلك فعل شىء فى أعقاب المعركة الجوية لعلهم يشنون هجوماً مدفعياً أو ينفذون عملاً من هذا القبيل لأن الأمر الأسهل بالنسبة لهم هو قصف التجمعات السكنية، إننى أعتقد أننا ينبغى أن ننطلق من افتراض أنهم لن يدعوا الأمر يمر مرور الكرام.
وكذلك استشهاد جولدا بتقدير المخابرات العسكرية بين 16 و25 سبتمبر حول مخاوف السوريين: أوضحت جولدا فى شهادتها بعد ذلك أنها تلقت فى الفترة من 16 وحتى 25 سبتمبر تقريرا اعتياديا عن استعداد القوات على الجبهتين السورية والمصرية، ثم استشهدت بتقدير المخابرات العسكرية وقالت: لقد نص التقدير على أن تشكيل الطوارئ السورى فى سبتمبر فى القطاع الدفاعى الأمامى يتناسب مع حجم القوات التى توضع فى حالة طوارئ، إن هذا الأمر ينبع من مخاوف ثارت لدى السوريين فى نهاية أغسطس، وقد تزايدت مخاوفهم بعد المعركة الجوية فى سبتمر 13 وبالتالى فإنه من المنطقى أن يدخلوا فى تشكيلهم الألوية المدرعة والمميكنة التابعة لفرق سلاح المشاة. ونسبت جولدا هذا التقدير إلى تقرير المخابرات رقم 191/73 بتاريخ 19 سبتمبر 1973.
وأيضا استشهاد جولدا بتقدير الجيش والمخابرات حول حالة الطوارئ القصوى للجيش السورى ورفع استعداد الجيش السورى والتأثر المصرى بمخاوف السوريين: بعد ذلك استشهدت جولدا مائير بتقرير المخابرات العسكرية الصادر فى 4 سبتمبر برقم 404 قائلة «فى يوم 24 سبتمبر عندما تأكد تقدير الموقف بأن الجيش السورى يأخذ وضع الاستعداد فى هيئة تشكيلات لحالات الطوارئ القصوى على الجبهة، كان افتراض الجيش الإسرائيلى أن هذا الاستعداد جاء ردا على المخاوف من احتمال وقوع هجوم من جانبنا على الجبهة السورية وأن هذه المخاوف السورية قد تزايدت بعد أن تأثر المصريون بها بدورهم».
وأكد النقاش بين رئيس لجنة التحقيق ورئيسة الوزراء ومراجعتهما للوثائق أن النص الذى جاء فى تقرير المخابرات المذكور بشأن تقدير الموقف أن نشوب الحرب «هو أمر فى تقديرنا ذو احتمال ضئيل حيث إن طبيعة التشكيلات السورية الحالية تلزمهم بفعل هذا بعد أن تأثر المصريون أيضاً بمخاوفهم». وأكدت رئيسة الوزراء أن التقرير المخابراتى فسر رفع الاستعداد فى الجيش المصرى على أنه نتيجة مخاوف المصريين من أن تقوم إسرائيل بشن عملية هجومية.
موقع الحذف الأول بواسطة الرقابة العسكرية الإسرائيلية
هنا يظهر فى صفحة 3 من نص شهادة جولدا باللغة العبرية أول حذف بواسطة الرقابة العسكرية الإسرائيلية فى نهاية الصفحة وهو بحجم سطرين كاملين. ثم يمتد الحذف إلى ص4 من النص العبرى بكاملها ثم ص5 ثم ص6 ثم ص7 ثم الفقرة الأولى من ص8 ولا يظهر فى هذا الموقع سوى اسم جولدا مائير بدون الكلام الذى قالته.
وكما نرى فإن اتجاه جولدا من بداية حديثها يذهب إلى إلقاء اللوم على المخابرات العسكرية وتقديراتها، وعلى رئيس الأركان وتقديراته ويميل إلى تبرئة وزير الدفاع موشيه ديان، بدرجة كبيرة، وطبعاً تبرئة نفسها من المسؤولية الشخصية وهو ما يظهر بعد ذلك بمكر شديد فى اعترافها بأنه لن تتصور قط رغم عدم ارتياحها للتقديرات، أن فى مقدورها أن تجادل رجال المخابرات وهيئة الأركان فى الشؤون التى يفهمونها بطبيعة الحال أكثر منها.
إن هذا المكر من جانب جولدا مائير فى الإدلاء بشهادتها يتجسد فى مواصلة الاستشهاد بتقديرات وتقارير المخابرات العسكرية التى تشير إلى استبعاد قيام مصر أو سوريا أو كليهما معا بالهجوم وأن الحشود على الجبهتين ليست سوى حشود دفاعية تعبر عن مخاوف البلدين من التعرض لعمل هجومى إسرائيلى فى أعقاب إسقاط الطائرات السورية يوم 13 سبتمبر 1973.
السؤال الوحيد المحرج لرئيسة الوزراء فى التحقيق كله
لقد عادت رئيسة الوزراء من رحلتها إلى ستراسبورج يوم الثلاثاء الثانى من أكتوبر وقابلها وزير الدفاع موشيه ديان وطلب منها عقد اجتماع عاجل فحددت له موعدا اليوم التالى الأربعاء 3 أكتوبر 1973، لقد تعرضت جولدا لسؤال وحد محرج من اللجنة طوال شهادتها وهو ما يبين درجة المجاملة لها وجاء السؤال قبل أن تتحدث عما حدث فى اجتماع الأربعاء الثالث من أكتوبر.
قال يادين عضو اللجنة وهو رئيس أركان سابق للجيش وأستاذ فى الآثار «إننى لم أنجح بعد فى الحصول على إجابة ترضينى من الناحية المنطقية من الهيئات التى أصدرت كل هذه التقديرات. لقد أسقطنا طائرات للسوريين فى الثالث عشر من سبتمبر، فلماذا كان ينبغى علينا أن نقدر طوال الوقت أن لديهم تخوفات من ردنا؟ أفهم أنهم كان عليهم أن يتخوفوا من ردنا لو أنهم هم الذين أسقطوا لنا طائرات. لكن الواقع أننا نحن من أسقط لهم طائرات. وإليك سؤالى.. كيف انطلى على تفكيرك آنذاك التبرير أو التفسير الذى قدمته المخابرات العسكرية بأن السوريين يتخوفون من رد فعلنا؟». إن هذا هو السؤال المحرج الوحيد الذى تعرضت له جولدا مائير طوال التحقيق وهو لا يحتاج خبرة مخابرات بل استخدام المنطق.
نلاحظ فى إجابة جولدا أنها قد تهربت من مواجهة السؤال المتعلق بمسؤوليتها الشخصية وقبولها لتبرير غير مقنع للحشود السورية والمصرية من جانب المخابرات العسكرية. إن السؤال يسلم أن هناك خطأ من جانب المخابرات لكنه ينصب أساسا على مساءلة رئيس الوزراء: لماذا لم تنتبه إلى أن تفسير المخابرات ضعيف وغير منطقى.
فلقد أجابت بأنه يخيل إليها أن السوريين اعتقدوا أن قيام إسرائيل بإسقاط الطائرات هو مجرد مقدمة لعمل هجومى إسرائيلى وأيضاً نسبت هذا التخيل إلى تقرير المخابرات لتتهرب من مسؤوليتها.
للموقف المبنى على معلومات المصدر. تبين جولدا أن تقدير رئيس المخابرات فى إبريل 1973 كان مماثلاً لتقديره بعد ذلك فى سبتمبر 1973 أى بعد ستة أشهر. ذلك أن تقدير المخابرات فى المناسبتين قال إن وقوع هجوم مصرى رغم الحشود فى التاريخين احتمال ضئيل. لقد أرادت بهذا أن تقول إن نجاح المخابرات فى تقديرها باستبعاد الهجوم فى إبريل 1973 جعلها تقبل تقديرها فى سبتمبر عن أن احتمال الهجوم المصرى ضئيل. وهنا نذكر القارئ بأن قيام المصدر المصرى بإنذار إسرائيل من احتمال وقوع هجوم مصرى فى مايو 1973 كان جزءاً من خطة الخداع الاستراتيجية، حيث استبعدت الحكومة تقدير المخابرات وصممته على إعلان التعبئة العامة بدون داع.
صورة السادات ودلالة اعتذار جولدا مائير له فى شهادتها السرية
علينا أن نلاحظ أن رئيس اللجنة القاضى أجرانات قد نبه رئيسة الوزراء إلى أن التحقيق سرى، وبالتالى فإن شهادتها سرية. معنى هذا أن حديثها عن الرئيس السادات وصورته التى استقرت عندها وعند مخابراتها لم يكن فى حسبانها أنه سيصل إلى العلن. من الواضح أن هدفها من الحديث عنه هو إظهار أنها تعرضت لخديعة هى ومخابراتها. لقد أشارت فى حديثها عن السادات إلى المصدر الذى كان يغذى حكومتها بالمعلومات عنه ولكن تم حذف اسمه عند نشر الشهادة. والمرجح أنه أشرف مروان، حسب الصحافة الإسرائيلية. ويبدو أن السادات كلفه بتشويه صورته عمدا فى تقاريره للموساد وهو الأمر الذى سهل خطة الخداع الاستراتيجى المصرية ونجاحها.
إن صورة السادات كانت أنه رجل ديكتاتور ينفرد باتخاذ القرارات وحده وأنه لم يكن يستشير أحدا «قيل لنا طيلة الوقت أنه لا يتشاور مع أحد»، وضربت مثلا بقرار طرد الروس الذى اتخذه السادات دون أن يطلع أحد عليه والذى كشفت كلمات أعضاء لجنة التحقيق أن المخابرات العسكرية لم تنجح فى معرفته قبل وقوعه. إن حديثها إذن عن السادات يقصد إلى تبرئة نفسها من الغفلة وهو ما يتأكد عندما ترسم الصورة التى كانت مستقرة عندها وعند حكومتها عن الرئيس المصرى باعتباره رجلا غير جاد يلقى تواريخ ولا يخجل وبعد ذلك لا يفى وأنه حدد أكثر من مرة موعدا للحرب ثم تراجع عن هذه المواعيد ومنها موعد سماه عام الحسم، وأنه كان موضع سخرية وتندر من جانب الكثيرين الذين كانوا يتساءلون: كيف يمكن أصلا أن يستمر فى منصبه وكيف يتحمله الشعب. ويبدو أن رئيسة الوزراء قد انتبهت أثناء هذا الحديث إلى هول الخديعة التى حدثت لها بشأن حقيقة السادات، فاستدركت قائلة «عله من الواجب اليوم أن نطلب منه العفو على هذه الصورة التى صدقناها عنه».
أعتقد كباحث مصرى أن السادات الذى استخدم كل الأدوات المتاحة بين يديه ليوقع الحكومة الإسرائيلية وأجهزة مخابراتها فى فخ خطة الخداع الاستراتيجى، بما فى ذلك الترويج لصورة هزلية عن شخصيته يستحق من التاريخ العسكرى لقب ثعلب الخداع الاستراتيجى فى النصف الثانى من القرن العشرين، يبقى أن نلاحظ أن اعتذار جولدا مائير للسادات لا يأتى فقط من باب تقرير حقيقة دهائه الواسع بل إنها تسوقه لتدلل على براءتها من المسؤولية وإظهار أن الخداع المصرى تم على أعلى المستويات التى يتعذر التشكيك فيها.
دلالة اعتذار جولدا لأشرف مروان
فى إطار أسئلة أعضاء اللجنة لجولدا مائير عن مسألة سفر رئيس الموساد تسيفى زامير فى ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة الخامس من أكتوبر إلى لندن لمقابلة أشرف مروان، حسب إيضاحات الصحف الإسرائيلية ترد أسئلة عن الأسباب التى أدت برئيس الموساد إلى عدم إخبار رئيسة الوزراء بسفره وبأنه تلقى برقية تحمل كلمة كودية تعنى أن هناك حرباً وشيكة من مصدره، فى هذا السياق يسأل بعض المحققين عن دلالة هذا التقصير فى إبلاغ رئيسة الوزراء بهذه الرحلة ساعة حصولها ويحاول المحققون هنا معرفة هل كان موقف جولدا مائير سيتغير إلى الانتباه إلى خطورة الموقف لو علمت بأمر الرحلة وربطت بينه وبين المعلومات التى وردت عن رحيل العائلات الروسية من دمشق يوم الخامس من أكتوبر.
ويتطرق المحقق لسكوف إلى برقية التحذير التى أرسلها أحد المصادر «تشير الصحافة الإسرائيلية إلى أنه أشرف مروان» بقرب وقوع الحرب ولم توصلها المخابرات لجولدا مائير رغم أنها وردت فى يوم 1 أكتوبر 1973، متسائلاً: هل كانت ستؤدى لإضاءة نور أحمر يدعوها لإعلان التعبئة.
علينا أن نلاحظ اطراد المجاملة من جانب أعضاء اللجنة ذلك أن أسئلتهم دائماً تفتح أمام رئيسة الوزراء الباب للتنصل من مسؤولية التقصير فى إعلان التعبئة العامة قبل يوم السادس من أكتوبر رغم توالى الإنذارات من المصادر المختلفة ورغم توافر شواهد ميدانية على زيادة احتمالات قيام المصريين والسوريين بهجوم، فالمسؤولية تقع على المخابرات العسكرية لعدم إخطار جولدا مائير بالإنذارات المبكرة من وجهة نظر اللجنة.
إن جولدا عندما تستطرد فى الإجابة لتقدم شهادة أو اعترافاً أو اعتذارات للمصدر الذى تقول الصحف الإسرائيلية فى شرحها للشهادة أنه أشرف مروان، فإن هذا يدخل فى باب التأكيد على انعدام مسؤوليتها لأنها، على حد كلامها، كانت تشك فى أن هذا المصدر كان يقدم معلومات مضللة فى حالات كثيرة للموساد وأنها دأبت على توجيه سؤال لرئيس الموساد هل يصدق هذا المصدر ويثق فيه؟
إنهم يضيفون لأصل الوثائق كما يحذفون منها: غير أن عيوننا كباحثين مصريين يجب أن تكون مفتوحة على تفسير آخر للكلام المنسوب لجولدا مائير فى ص40 من الوثيقة العبرية، إنه تفسير أطرحه كافتراض يرى أن هذا الكلام عن الاعتذار للمصدر والذى يعنى أنه أثبت إخلاصه لإسرائيلى، كلام تمت إضافته ودسه فى النص من جانب المخابرات الإسرائيلية لتوصلنا إلى إطلاق أحكام متعجلة بأن مروان كان عميلاً مخلصاً لإسرائيل وخائناً لمصر، ذلك أن الرقابة العسكرية الإسرائيلية التى تتدخل فى شهادة رئيس الوزراء بالحذف فى مواقع كثيرة وخاصة فى الصفحة المذكورة لحذف أسماء وإشارات بعينها قادرة على التدخل أيضاً بوضع إضافات وإيحاءات ضمنية، وإذا كانت مواقع الحذف واضحة أمام عيوننا فإن علينا أن نتوصل بالبحث إلى ما هو خاف عن العيون فى سطور هذه الشهادة وغيرها.
تأملوا معى النص أن رئيسة الوزراء تجيب عن سؤال للمحقق الفريق لسكوف، يقول نص السؤال من لسكوف «لدى سؤال فى موضوع الموساد.. صحيح أنه يتصل بعملية توزيع مواد المعلومات الخام لكنه يعنينى من ناحية الوزن الذى اعتدت أنت إعطاءه لهذا المصدر فيما يتعلق بالمعلومات التى كان يرسلها (موقع حذف غالباً كلمتين تشيران لاسم المصدر) ويواصل لسكوف نحن نعرف أن البرقية التى وردت من هذا المصدر بتاريخ الأول من أكتوبر لم تصل إليك، هل رأيتها بعد فوات الأوان؟ وهل هى من نوعية البرقيات التى تضىء نوراً أحمر يثير القلق أو حتى تدفعك للتساؤل لماذا لا أقوم بإعلان التعبئة العامة واستدعاء قوات الاحتياط؟ وتجيب جولدا مائير أنا أقول إننى أعتقد أننا جميعاً نشعر بالحكمة ونصبح اليوم حكماء أكثر مما كنا عليه فى الأول من أكتوبر والثانى من أكتوبر والثالث من أكتوبر، أجد صعوبة فى القول كما قلت سابقاً لو أن رئيس الموساد أبلغنى تليفونياً أنه سيسافر إلى لندن لكنت ربما ربطت هذا فى الصباح بما قاله رئيس المخابرات العسكرية عن رحيل عائلات الخبراء الروس فى سوريا، ولقلت انتبهوا أن أمامنا أموراً خطيرة للغاية أو لو أننى رأيت هذه البرقية فى أول أكتوبر لربطتها أيضاً بالشواهد الأخرى، أخشى أن أقول هذا نظراً لأننى لا أعتقد أنه سيكون من الصواب أن ألقى بمثل هذا الكلام وأن أعطى وزناً لهذا لو كنت عرفت أنا أخشى أن أدعى هذا.
هنا علينا أن نلاحظ موقع الحذف فى سؤال آخر للفريق لسكوف حيث يأتى النص بالصورة التالية: لسكوف: «حذف بمقدار سطرين ثم السؤال» لو كان مثل هذا الأمر قد جاء فهل كان لهذا وزن واعتبار لديك؟ وهنا علينا أن نلاحظ العبارة التى قد تكون مقحمة من جانب المخابرات الإسرائيلية على إجابة جولدا مائير الأصلية، يأتى النص على النحو التالى، جولدا مائير: دون شك لكننى أريد أن أقول كلمة أن أعترف بالظلم الذى أوقعته فى حق هذا المصدر طول كل السنوات، فلقد اعتدت أن أقول لرئيس الموساد هل تثق فى هذا المصدر؟
إن واجبنا البحثى لا يلزمنا بالانتباه إلى احتمال أن تكون الجملة السابقة المنسوبة لجولدا مائير فى الوثيقة جملة تم إقحامها على النص الأصلى للوثيقة، وبعبارة أخرى أنه من الممكن أن يكون اعتراف جولدا مائير بأنها ظلمت المصدر «أى أشرف مروان طبقاً للصحف الإسرائيلية» اعتراف لم يحدث منها أصلاً فى شهادتها عام1974 وأن يكون هذا الاعتراف بظلم المصدر نتيجة الشك الخاطئ فى إخلاصه لإسرائيل اختراع من المخابرات الإسرائيلية تم وضعه فى نص الوثيقة قبل نشرها عام 2013.
إذا صح هذا الاحتمال فإن هدف الإقحام سيكون إيهامنا بتصديق أن مروان كان خائناً لمصر وكأننا بلهاء يمكن أن نصدق هذا الإيهام دون تمحيص كاف لحقائق الأمور.
هنا نضع أسئلة المحققين لجولدا مائير بعد نطقها بعبارة الاعتراف بظلم المصدر، يقول لها المحقق لاندافى: هل تقصدين وتجيب جولدا نعم، فيسألها رئيس لجنة إجرانات هل المقصود فتقول جولدا مائير إننى أتحدث عن المصدر الرئيسى، أتحدث عن أن تكرار الحذف يجب أن يدعونا للشك فى الهدف منه.
وتستطرد قائلة مراراً لرئيس الموساد: هل أنت متأكد منه ومطمئن له؟ هل تصدق هذا المصدر؟ لقد كان الموضوع يشغل ذهنى طوال الوقت، وأقول لنفسى ربما كانت المعلومات التى يقدمها لنا هذا المصدر مجرد معلومات مضللة، ومع ذلك فلقد أخذنا هذا المصدر مأخذ الجد.
أرجو أن أكون قد أوضحت نوع التمهل فى هذا الجزء وهو تمهل يثير عندى الشك فى الهدف منه ويدعونى إلى مطالبة الباحثين فى شؤون المخابرات بدراسة هذا الجزء من الوثيقة دراسة ممحصة لاكتشاف ما هو أصل ما قالته جولدا مائير بالفعل، وما هو مقحم وتمت نسبته إليها ووضعه على لسانها قبل نشر الوثيقة، وعلينا ألا ننسى أثناء الدراسة أن الصحافة الإسرائيلية قد أبرزت هذا الجزء من الوثيقة عند نشرها عام 2013 وتبرعت بملء الفراغات المحذوفة باعتبارها دالة على اسم أشرف مروان، وذلك لنقع فى الفخ الذى سبق أن أوقعناهم فيه ولكن هيهات.