لم يكن عبد الناصر محتاجاً إلى وقت كبير ليدرك الأسباب الخارجية والأسباب الداخلية التى تكاتفت لكى تؤدى إلى نكسة 1967 أو إلى هزيمة 1967 فالأمران سواء. واستطاعت النكسة بالرغم من ذلك أن تهز كيان عبد الناصر من الداخل حتى يمكن أن يقال إن يونيو 1967 كان هو النهاية الفعلية لحياته حتى وإن تأخرت هذه النهاية بعدها بعض الوقت. أدرك عبد الناصر بحسه الوطنى العميق هذه الأسباب جميعاً وأطلق عباراته الشهيرة «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلاّ بالقوة».
وبدأ عبد الناصر فى إعادة بناء الجيش المصرى مستعينا بالعسكريين المحترفين من أمثال الفريق أحمد إسماعيل والفريق سعد الشاذلى والفريق الجمسى وغيرهم واستطاع بكل هذه الخبرات العسكرية وبالتصميم على اجتياز الهزيمة أن يقيم حائط الصواريخ وأن يبدأ حرب الاستنزاف التى أرهقت الجيش الإسرائيلى كما يعترف بذلك خبراء الحرب وفى مقدمتهم الإسرائيليون أنفسهم.
وبدأت طائرات إسرائيلية تتساقط أمام حائط الصواريخ. ولم يطل بعبد الناصر العمر كثيراً، لأن النكسة هدته من الداخل فعلاً، وقد رأيته فى جامعة القاهرة يوم 23 يوليو 1967 وملابسه تتدلى من على كتفيه لشدة ما أصابه من هزال، ومع ذلك كان يبدو قوياً متماسكاً مصمماً على عبور الهزيمة.
و أراد قضاء الله أن يلقى عبد الناصر ربه وأن يحمل المسؤولية الرئيس أنور السادات.
ولم يكن أمام السادات من خيار إلاّ أن يستكمل المسيرة تحت مظلة خداع استراتيجى ماكر استطاع أن يضلل العدو الإسرائيلى الذى يصعب تضليله.
و لابد هنا وأن نذكر الجهد الجبار الذى قام به سلاح المهندسين فى الجيش بدءاً من التدريب شمال القاهرة عند ناحية البدرشين، حيث أقام سلاح المهندسين ساتراً ترابياً على ضفة الريّاح البحرى – مشابها لخط بارليف الذى كانت إسرائيل قد أقامته على الضفة الشرقية للقناة، والذى كانت تتصور أنه غير قابل للهدم أو الاختراق. بدأ سلاح المهندسين يوجه مدافع مائية من الناحية الشرقية إلى الناحية الغربية عند البدرشين واستطاعت تلك المدافع المائية أن تزلزل الساتر الترابى المشابه لخط بارليف.
و قد قام سلاح المهندسين بالشىء ذاته فى مواجهة خط بارليف نفسه واستطاع أن يحدث ثغرات كثيرة فى هذا الخط المنيع الذى كانت إسرائيل تعتقد أنه غير قابل للاختراق. وبعد هذه العملية بدأت فى الساعة الثانية من ظهر يوم السادس من أكتوبر، حيث قامت أسراب من الطائرات وقاذفات الصواريخ بعبور القناة فى اتجاه المنطقة الشرقية – غرب سيناء – وقامت تلك الضربة الجوية الشاملة بضرب قيادة العدو ومطاراته ومنصات الصواريخ فى مفاجأة أذهلت الصهاينة نتيجة ما تم من عمليات خداع استراتيجى فى صباح ذلك اليوم، مما لا يمكن التكهن معه بقيام حرب قادمة.
ومن تلك العمليات الخداعية الناجحة أن عدداً من ضباط الجيش المصرى سافروا لأداء فريضة الحج - أو العمره صبيحة يوم السادس من أكتوبر وأن المشير أحمد إسماعيل نفسه ذهب إلى مطار القاهرة ليودع زوجته فى سفرها إلى الأماكن المقدسة. هل يمكن أن تكون هذه دولة فى حالة حرب؟.
وانطلت خدعة الرئيس أنور السادات على دهاقنة الحرب الإسرائيليين.
وبعد خمس دقائق فقط من الاجتياح الجوى بدأت المدفعية فى إطلاق قذائفها حيث انطلقت قذائف ألفى مدفع ولواء صواريخ قامت بها مائة وخمسة وثلاثين كتيبة مدفعية على طول خط المواجهة لتدمير مراكز قيادات العدو الإسرائيلى.
وبعد ذلك بدأ رجال الصاعقة فى عبور القناة بقوارب مطاطية وتلتها قوات المشاة بالعبور بأسلحتها الخفيفة وصواريخ الكتف المضادة للطائرات وسلالم الحبال لتسلق الساتر الترابى – خط بارليف الذى كان الإسرائيليون يتصورون أنه غير قابل للاختراق.
وفى الساعة الثانية والنصف من هذا اليوم الرائع رفعت القوات المصرية العلم المصرى على الضفة الشرقية للقناة وسط هتاف الضباط والجنود «الله أكبر الله أكبر» وفى صباح يوم السابع من أكتوبر عبرت القوات خط بارليف بكل الأسلحة وحاولت إسرائيل صد الهجوم الكاسح ولكن تم تدمير قواتها وتقدمت القوات المصرية البرية حوالى بين ثلاثة وأربعة كيلو مترات شرق القناة.
لست مؤرخاً عسكرياً، ومذكرات قادة القوات المسلحة خاصة مذكرات الفريق الجمسى حافلة بكل هذه التفصيلات لمن أراد أن يرجع لها.
كانت أياماً رائعة، ومجيدة وعظيمة، و كان الذى جعلها كذلك وجعلها تدخل تاريخ العسكرية العالمية وتدرس فى أكاديميات الحرب العالمية – كان الذى جعل هذه الأيام الرائعة كذلك هو التخطيط العلمى الدقيق للحرب ثم التنفيذ بجدية كاملة وبتكاتف جميع ألوية الجيش وفرقه.
وبذلك تحقق نصر أكتوبر العظيم الذى مازلنا نعيش فرحته وعظمته حتى اليوم.
وبعد أن انتهيت من كتابة المقال شاء حسن حظى أن أشاهد احتفال الجيش المصرى بمناسبة الذكرى الواحدة والأربعين لنصر أكتوبر وقدمت فرق الجيش عروضاً رائعة أظن أنها رفعت معنويات الشعب كلهً وقد أسعدتنى هذه العروض وجعلتنى أتجه إلى الله داعياً أن يحفظ لمصر جيشها العظيم الذى لم يكن أبداً إلا جيش مصر ولم يكن جيش حزب أو فريق أو فئة وقد أسعدتنى صورة الحاضرين وفى الصف الأول منها صورة الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا تواضروس بابا الكنيسة الأرثوذكسية.
رعا الله مصر وحفظها وحفظ لها جيشها وقيادتها التى تعمل بغير كلل ولا ملل من أجل مستقبل واعد بإذن الله.
وتحية من جديد إلى جمال عبد الناصر وإلى أنور السادات وإلى كل أبطال حرب السادس من أكتوبر والعبور العظيم.
عاشت مصر وعاش جيشها العظيم.
رعا الله مصر وحفظها من كل سوء.
والله المستعان.