أخرجوا السياسة من المحاكم

ضياء رشوان الثلاثاء 10-04-2012 21:00

تشهد مصر تغيراً مهماً فى تطورها السياسى خلال الأسابيع الأخيرة، ففى أثناء حكم «مبارك»، خاصة سنواته الأخيرة، اقتصر الاهتمام والعمل بالسياسة على النخب الحزبية والسياسية المنتمية، بينما ظلت جموع المصريين بعيدة عنها، تتشكك فيها وترفض المشاركة سواء بالانضمام للأحزاب أو بالاحتجاج السياسى أو بالترشح فى الانتخابات العامة أو بالتصويت فيها. وفجأة أتى خروج المصريين إلى ميادين البلاد وشوارعها فى ثورتهم الشعبية الأولى منذ قرنين على الأقل، لكى يحولهم جميعاً إلى مهتمين بالسياسة أو ناشطين فيها، مما جعل التطورات السياسية الرئيسية فى مصر خلال العام الأول من الثورة تتم داخل الشارع وتتحرك بفعل توجهات عموم المصريين، سواء كانت تصويتاً فى الاستفتاء والانتخابات أو كانت وقفات واحتجاجات ومظاهرات.


أما فى الأسابيع الأخيرة، التى تشهد التطورين الأكثر أهمية فى مسار الثورة المصرية، وهما صياغة الدستور وانتخاب رئيس الجمهورية، فقد انتقلت السياسة والقرارات الكبرى فى هذا المسار من الشارع والنخبة إلى ساحات القضاء، خاصة الإدارى والدستورى. فمجلسا البرلمان، الشعب والشورى، مصيرهما الآن معلق فى حكم المحكمة الدستورية العليا التى تنظر دعوى ببطلان القوانين التى انتخبا وفقاً لها.

 أما دستور البلاد الجديد، المقرر صياغته وفق توافق وطنى عام وعلى قاعدة الإعلان الدستورى المؤقت، فقد انهار تشكيل جمعيته التأسيسية التى انفرد البرلمان باختيارها بحكم من القضاء الإدارى لم تُعرف، حتى كتابة هذه السطور، حيثياته ولا كيفية تعامل البرلمان معه.

أما انتخابات رئاسة الجمهورية، فإن مصير بعض مرشحيها الرئيسيين منظور، حتى لحظة كتابة هذا المقال، أمام القضاء الإدارى لحسم قانونية ترشحهم ومدى انطباق شروط الدستور عليهم. وأيضاً فيما يتعلق بانتخابات الرئاسة، فإن جدلاً قانونياً هائلاً يدور، سواء فى المحافل السياسية أو وسائل الإعلام أو ساحات القضاء الإدارى، حول المادة 28 من الإعلان الدستورى التى تحصن عمل وقرارات لجنة الانتخابات الرئاسية ومدى خطورتها على نزاهة هذه الانتخابات وتعبيرها عن توجهات المصريين الحقيقية.

عادت السياسة وصنع التطورات والمؤسسات الرئيسية فى النظام السياسى المصرى المفترض أن يعبر عن الثورة بعد تحولها إلى دولة، إلى ساحة القضاء، فى نفس الوقت الذى تراجعت فيها مساهمة عموم المصريين من ميادينهم وشوارعهم.

 صياغة مسار الثورة ومصير مؤسساتها من ساحات التقاضى تعبر فى حقيقتها عن فشل حقيقى وصارخ من جانب النخب المختلفة التى كان من المفترض أن تقود البلاد وتحفز العباد للسير نحو توافق عام حول مراحل انتقال الثورة إلى دولة بصورة آمنة وسلمية دون الدخول فى خلافات ومشادات سياسية لم تستطع التوصل لحلول وسط بشأنها، فلم يعد من سبيل سوى اللجوء لساحات المحاكم لحسمها.


والمشكلة الكبرى فى الحسم القضائى للنزاعات السياسية الكبرى، خاصة تلك المتعلقة بتطور ومصير المؤسسات الرئيسية للنظام السياسى، هى أنه من ناحية لن يوصل لحل نهائى وحاسم وقريب لها بحكم تعدد درجات التقاضى واستطالة وقته مما يديم هذه النزاعات لأوقات أطول، ومن ناحية أخرى أنه يغلق الباب أمام إمكانية التوصل لحلول وسط بشأنها بعدما رأت أطرافها أن الحسم القضائى هو الحل الوحيد والأخير لها.

إن مصر تحتاج اليوم، وبسرعة، لإخراج مصيرها ومسارها السياسى من ساحات القضاء - الذى له كل الاحترام والتقدير - لتعود إلى ساحات المجتمع والمفاوضات المسؤولة بين القوى والنخب السياسية. أما غير ذلك فإنه لا شىء يدعو للتفاؤل فيما يخص تطور الثورة وبناء مؤسسات نظامها السياسى الجديد، وستكون المسؤولية عندئذ كاملة على أكتاف كل القوى السياسية والحزبية، ومعها بالطبع المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

diaarashwan@gmail.com