على ضوء مقالتى التى نُشرت فى الأسبوع الماضى بذكرى رحيل عبدالناصر.. قال محدثى: أنتم، الناصريين، تظنون أن عبدالناصر مازال يعيش فى منشية البكرى !!.. اصحوا من هذه الغيبوبة!!
■ قلت له: أولاً ليست هناك فلسفة للناصرية، لذلك لا تستطيع أن تطلق علينا "ناصريون"، إنما الرجل جاء بمشروع عربى وحدوى فى ظروف كانت فيه أوطاننا ممزقة وتعانى من التخلف، فأحدث ما أحدث من استجابةٍ عند الغالبية العظمى من الجماهير العربية، إذاً هى ليست أيديولوجية ناصرية- كما تزعم- إنما هى حلم يتطلع إليه العرب جميعاً منذ انبثاق الدعوة التى منَّ الله بها على رسوله الكريم.
من جانب آخر ليس هناك فى تاريخنا العربى المعاصر من أحدث ذلك الشعور بالانتماء القومى مثلما فعل عبدالناصر، ولو سلمنا بأن بعض الحكام العرب ممن جاؤوا عقب رحيل عبدالناصر قد حققوا إنجازاً يُذكر، فإن ذلك قد يجعلنا نتسربل فى متاهات قد لا يحكمها منطق العقل، لأنها تجنح لعوامل أخرى، أقلها الانصياع لاحتكام التعسف العاطفى!!.. فليس هناك من حاكم عربى سواءً كان وارثاً للحكم، أو ممن غامروا بالانقلابات العسكرية وغير العسكرية استطاع أن يُحدث ما أحدثه عبدالناصر لأسباب عديدة:
أولاً لنأخذ دور مصر الحضارى: فمنذ القدم وأرض الكنانة مصدر إشعاع للدنيا بأسرها- هذه قضية لا يجادل فيها اثنان- لنترك تاريخ أول عبادة الشمس، بدأت فى مصر الفرعونية، ولنترك دور الإسكندرية الحضارى وما قدمته للإنسانية جمعاء، ولنترك سماحة المقوقس وطيبته، ولنطف سريعاً على الفتح الإسلامى لمصر- بدوله المختلفة- الحكم الإسلامى الأول (ابن العاص)، والحكم الأموى، والحكم الفاطمى، والأيوبيين ودحرهم الصليبيين والمغول.. إلخ.. إلخ.. وحتى نصل إلى أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.. وهنا- أيضاً- علينا أن نوجز التاريخ لنصل بيت القصيد ومربط الفرس للرد على سؤالك.. (لماذا عبدالناصر.. دون سواه)؟!!
ففى القرن التاسع عشر- وعلى الصعيد الأدبى والفكرى فقط - ومنذ (رفاعة رافع الطهطاوى) وحتى (نجيب محفوظ) وما بينهما، وما بعدهما.. كم قدمت مصر من التراث الإنسانى للإنسان العربى؟!.. أعدادا لا تُحصى ولا تُعد من كل ألوان المعرفة الإنسانية..
وعلى الصعيد الدينى: فمنذ تأسيس الأزهر، وحتى عصر الأفغانى وعبده والمراغى وشلتوت والباقورى، إلى أحمد الطيب، ناهيك عن تأسيس المؤتمر الإسلامى.. كم عض المصريون بالنواجذ على الشريعة السمحاء؟!.. الأمر فى هذا يطول شرحه.. على صعيد الإبداع الفنى: مسرحا كان أم فنونا تشكيلية وموسيقية، فإن مصر كانت راعية لكل هذه الفنون، ورائدة فى كل هذه المجالات.
- ما الذى تريد الوصول إليه من كل هذا السرد؟!!.. وأين كل هذا من موضوعنا الأساسى، أقصد لماذا عبدالناصر.. دون سواه؟!..
■ إننى يا سيدى فى صلب الموضوع- وأستميحك العذر للإطالة- ولكى أصل إلى لب ما أنا بصدده أقول: إن تاريخ الحركة الوطنية فى مصر له دوره أيضاً.. فمنذ عرابى مروراً بسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وحتى عبدالناصر، إنه دور كان له الأثر الكبير على استقطاب واهتمام المواطن العربى. أخلص من كل ما سلف إلى أن عبدالناصر قد دخل عقولنا وقلوبنا وقد كنا مهيئين لاستقباله بتعطش من قبل أن يظهر.. فعبدالناصر لم يكن وسيلةً لنا بحد ذاته، بقدر ما كان تتويجاً لكل الطموحات التى كنا نتمناها من قبل ظهوره.. فجاء الرجل، وجسد لنا هذه الطموحات بشكل عملى، مما أوجد صدىً واستجابة عند الغالبية العظمى، من المغرب العربى وحتى اليمن.. لأن معظم أوطاننا كانت تعانى من استعمار بغيض، وحكام لا يعتنون بشعوبهم.. فمجيئه إذن كان موائماً تماماً مع الظروف الموضوعية للساحة الوطنية.. - ولكن المرحلة الحالية قد تجاوزت أطروحات عبدالناصر القومية!!
■ طبعاً البركة فى حملات التشويه التى تبنتها الأجهزة العالمية والمنظمات العربية الظلامية، ناهيك عن مرحلة السادات التى استغلت إنجازات عبدالناصر فى العبور وأتاحت الفرصة لأعداء عبدالناصر من الظلاميين أن يدلسوا، ويشوهوا أشرف تجربة مرَّ بها تاريخنا العربى المعاصر. أفليس من حقنا عندما تأتى ذكرى رحيل إنسان شريف كعبدالناصر أن نذكره بسطورٍ نعبر فيها عن حزننا ونحن ننظر إلى واقعنا العربى الراهن، وكيف أنه ممزق لكل الطموحات التى كان الرجل يدعو إلى تحقيقها؟!!