فى عام 1951، كنت طالباً بالسنة الثالثة الابتدائية - التى تناظر فى مراحل التعليم الآن السنة الأولى الإعدادية - حين وجدت بين مناهج الدراسة وحصصها وكتبها مادة باسم «التربية الوطنية»، يدرسها لنا مدرس التاريخ، ويفرد لها إحدى حصصه الأسبوعية، تتناول النظام السياسى للدولة المصرية طبقاً لدستور 1923 الذى كان قائماً آنذاك، وما يتصل به من مسائل، مثل شروط المواطنة، وحقوقها وواجباتها، وغيرها، مما يشكل فى مجموعه خلفية تتيح لنا متابعة الشؤون العامة فى وطننا.
ولا أعرف متى أدخلت هذه المادة فى مناهج الدراسة بمراحل التعليم العام، ولكنى أرجح أن يكون الذى أدرجها هو «طه حسين»، حين كان مستشاراً فنياً لوزارة المعارف - وهو الاسم القديم لوزارة التربية والتعليم - فى أربعينيات القرن الماضى، لكن الفكرة، بالقطع، كانت أحد تجليات الرؤية التى طرحها فى كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر»، الذى انتقد فيه تعدد أنواع التعليم الذى يتخصص فيه فريق من المصريين منذ أولى مراحله حتى نهايتها، بين تعليم دينى صرف وتعليم مدنى، وتعليم أجنبى، يسفر عن افتقادهم أرضية ثقافية وطنية مشتركة، داعياً إلى أن تكون مرحلة التعليم العام - من بداية المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الثانوية - مرحلة يتلقى فيها الطلاب، جميعاً، أسس العلوم والمعارف العامة، بما يساهم فى تشكيل ما يمكن تسميته الآن، وجداناً وطنياً مشتركاً بين المصريين جميعاً، لينتقلوا - بعد ذلك - إلى المرحلة الجامعية، التى تؤهلهم للتخصص فى فرع من العلوم الإنسانية والطبيعية.
فيما بعد، وبسبب التغيرات الجديدة، التى لحقت بالنظام التعليمى واتسمت بالتقلب والعشوائية، اختفت مادة «التربية الوطنية» لتحل محلها فى مناهج التعليم العام، مادة باسم «المجتمع العربى»، ولم أتنبه إلى أنها أدمجت فى مادة التاريخ إلا بعد الضجة التى أثارتها، فى الأسبوع الماضى، التعديلات التى أدخلت على عجل ودون تبصر على كتابى التاريخ المقررين على السنة السادسة الابتدائية، والثالثة الثانوية، إذ أضاف الكتاب الأول فقرة إلى طبعة العام الدراسى الحالى منه، تشير إلى الدور الذى لعبته حركة تمرد فى ثورة 30 يونيو، محلاة بصور لقادتها الثلاثة «محمود بدر» و««حسن شاهين» و«محمد عبدالعزيز»، وذكر الكتاب الثانى فى سياق الحديث عما حدث فى أعقاب ثورة 25 يناير، أن عدداً من الجماعات الإسلامية، تصدرت المشهد بعد الثورة وأظهرت نفسها أمام الناس باعتبارها مفجرة الثورة، ثم أسست أحزاباً سياسية مثل «الحرية والعدالة» و«النور» بالمخالفة للدستور وللمادة 8 من قانون الأحزاب.
وحدث ما كان متوقعاً: أثارت العبارة الأولى جدلاً واسعاً بين المنضمين لحركة تمرد، لأنها ركزت على صور أشخاص بأعينهم دون غيرهم من قادة الحركة وأعضائها، وأثارت العبارة الثانية غضب «حزب النور» الذى اعتبرها بمثابة حكم صدر عن جهة غير مختصة، هى وزارة التربية والتعليم، ببطلان دستورية قرار تشكيله، بل ببطلان خارطة الطريق التى أعلنت فى 3 يوليو، لأنه كان أحد الأحزاب التى شاركت فى الحوار حولها ووقعت عليها، وهدد بمقاضاة الوزارة، فأسرعت - فيما يشبه الاعتذار - تعلن أنها سوف تشكل لجنة لمراجعة هذه الفقرة من الكتاب يكون من بين أعضائها ممثل لحزب النور، وهو ما أثار مزيداً من الاعتراض والاحتجاج!
وسط الضجيح الذى أثارته الإضافات العشوائية التى أقحمتها وزارة التربية والتعليم على منهج التاريخ الذى يدرسه طلاب السادسة الابتدائية، والثالثة الثانوية هذا العام، لم يتوقف أحد ليسأل نفسه أو يسأل غيره: هل لثورتى 25 يناير و30 يونيو صلة بالتاريخ كعلم؟! وهل يجوز تدريسهما لطلاب المدارس فى التعليم العام باعتبارهما تاريخاً بعد أقل من أربع سنوات على وقوع الثورة الأولى وأقل من عامين على وقوع الثانية؟ والإجابة هى بالقطع: لا، ذلك أن الثورتين لاتزالان حدثاً يتشكل ولم تتكشف بعد كل حقائقه ووثائقه، التى تعين المؤرخ على استخلاص الحقائق وتحديد الأدوار وتقييم الأحداث والشخصيات، وهما حدثان لايزالان موضع جدل وخلاف بين الذين شاركوا فيهما ودعموهما، والذين انشقوا عنهما وهاجموهما.
نحن إذن أمام ظاهرة سياسية، ولسنا أمام ظاهرة تاريخية، وقد جرت العادة فى أقسام التاريخ بالجامعات المصرية، ألا تقبل تسجيل أطروحة لنيل درجتى الماجستير والدكتوراه فى التاريخ، إلا إذا كانت تتناول حدثاً مضى على وقوعه خمسون عاماً على الأقل، تتكشف خلالها الوثائق التى تتعلق به، وتبتعد خلالها الصلة المباشرة بين المؤرخ وبين الفترة التى يؤرخ لها، حتى يضمن لبحثه أكبر قدر ممكن من الحياد والتجرد.
وقد كان السلف الصالح من المؤرخين على حق، حين قالوا إن المعاصرة حجاب، فالذى يعاصر ظاهرة تاريخية يكون طرفاً فيها بالحب أو الكره، وبالمنفعة أو الضرر، وهو ما يحجب عنه الحقيقة، وغالباً ما يقوده إلى الانحياز لأحد أطرافها، وهو ما لا نلاحظه فيما تركه كبار كتاب الحوليات من المؤرخين فى العصور الوسطى، الذين كانوا يسجلون أحداث التاريخ يوماً بيوم، وحولاً بعد حول، إذ كانت أحكامهم تتأثر بصلتهم بدوائر الحكم، وبما أصابهم من خير أو ضرر فى ظل من يؤرخون له من الحكام والسلاطين، وهو ما نلاحظه فى كتب المذكرات والسير الذاتية التى كتبها أصحابها من الساسة الذين لعبوا أدواراً على مسرح التاريخ أو فى كواليسه، فهى تنحو فى الغالب إلى تبرير الأخطاء التى وقعوا فيها، أو إهمال ذكرها، وهى - على عكس ما يظن كثيرون، خاصة من الأجيال الشابة - ليست تاريخاً، ولكنها مجرد أقوال شاهد على ذلك الجانب من التاريخ الذى سمعه أو شارك فى صنعه.
والتاريخ يكتبه المؤرخون لا الشهود، وهم يقومون بعمل قريب مما يقوم به النائب العام ووكلاؤه والقضاة، ووظيفتهم أن يجمعوا شهادات الشهود، الذين رأوا الواقعة التاريخية، أو شاركوا فى صنعها، وما يتعلق بها من وثائق رسمية محلية أو أجنبية وما نشرته الصحف المواكبة للحدث عنها، ويقارنوا بين أقوال الشهود بعضهم البعض، وبين ما ورد فيها وما ورد فى الوثائق والصحف، ليستخلصوا الحقيقة من هذه المقارنة، ويعيدوا تخليق الواقعة فى صورة أقرب ما تكون إلى ما حدث.. ثم يفسروها طبقاً لمنهجهم فى تفسير التاريخ.
والمشكلة التى أثارها اندفاع وزارة التربية والتعليم إلى إدراج ثورتى يناير ويونيو فى مناهج التاريخ فى المرحلتين الابتدائية والثانوية، هى أنها خلطت بين التاريخ والسياسة وبين السياسة والحزبية، وتوهمت أنها بإضافة عدة سطور تتناول الأمرين تطور مناهج التاريخ فى مرحلة التعليم العام، بما يحقق أهداف ثورتى يناير ويونيو، فأثارت بذلك جدلاً هو فى معظمه حزبى، فى حين أن تطوير هذه المناهج - خاصة فى مجال العلوم الإنسانية ومنها التاريخ - يتطلب عملاً أكثر رصانة وأقل اندفاعاً، من السعى لمغازلة حركة تمرد، أو المطالبة بحل حزب النور، ينطلق من نفس الرؤية التى انطلق منها «طه حسين» حين دعا قبل حوالى 75 عاماً لتوحيد التعليم العام، ليكون بوتقة لتشكيل وجدان وطنى مشترك بين المصريين جميعاً، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وطبقاتهم.
ولو أن وزارة التربية والتعليم انطلقت من رؤية طه حسين المبصرة، وطورتها بما يناسب الزمن الذى نعيش فيه، لأدركت أن التعليم العام أصبح أقرب ما يكون إلى تعليم طائفى، ولو أنها راجعت مناهج التاريخ لأدركت أن هناك مراحل كامنة منه، كالحقبة القبطية مثلاً، تدرس فى ثنايا العهد البيزنطى، وتكاد تتوه بين تفاصيله، ولأعادت تقسيم هذا المنهج، على سنوات الدراسة، بحيث ينهى الطالب مرحلة التعليم قبل الجامعى، وهو يستوعب الخطوط العامة لتاريخ وطنه، بما يؤكد لديه مشاعر الانتماء لهذا الوطن والفخر به، وإدراك العوامل التى حافظت على وحدته، وساهمت فى تقدمه.. واستوعب كذلك الخطوط العامة لتاريخ الإقليم الذى نحن جزء منه، والعالم الذى نعيش فيه.
ولو أن الوزارة انطلقت من رؤية «طه حسين» المبصرة، لأعادت مادة «التربية الوطنية» إلى مناهج التعليم فى المرحلة الإعدادية، بحيث يدرس فيها الطلاب دستور بلادهم، ويقارنون بينه وبين ما سبقته من دساتير، ويتعرفون على ما ينطوى عليه من مصطلحات كالمواطنة والتعددية الحزبية والحريات والحقوق العامة، وما يتصل به من مفاهيم كالفارق بين الدولة الدينية والدولة المدنية والوحدة الوطنية والمعنى الدقيق لأهم المصطلحات والتيارات والمؤسسات التى ينطوى عليها النظام الدولى القائم، من الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، ومن المجتمع المدنى إلى مواثيق حقوق الإنسان، ومن معنى الإرهاب إلى معنى التظاهر السلمى!
ولو أن بعض الذين أثاروا الضجة بسبب ثلاث صور نشرت فى هذا الكتاب أو عدة سطور وردت فى كتاب آخر، كانوا قد توقفوا عند جوهر المشكلة لأدركوا أن ثورتى يناير ويونيو، حين يحين أوان انتقالهما من خانة السياسة إلى خانة التاريخ، سوف تدخلانه من أوسع أبوابه، وسوف يكون من بين حيثيات ذلك أنهما حققتا رؤية «طه حسين» المبصرة فى أن يكون التعليم العام والثقافة العامة بوتقة لبناء وجدان وطنى مشترك بين المصريين جميعاً.