كنت قد آثرت، من قبل، ألا أتحدث عن المأساة الرياضية - الاجتماعية - الجنائية - السياسية التى وقعت فى بورسعيد شهر فبراير الماضى، وخلفت أكثر من ٧٥ قتيلا، رغم متابعتى للأمر عن كثب فى حينها، وذلك لكون الموضوع شائكاً ومعقداً للغاية. فكل النظريات المؤامراتية قد ظهرت، كذلك كل النزعات «الجهوية» - حيث أستعير اللفظ من التونسيين - قد تجلت، كى تفصل ما بين «بورسعيدى» و«قاهرى» على غرار «صعيدى» «بحرى»، «سيناوى» «نوبى»، هذا.. ذاك، وليس بالمعنى الإيجابى «التعددى للتنوع الثقافى المصرى» ولكن كما يحمل المصطلح التونسى لديهم «الجهوية» بمعنى: من أى جهة أنت؟ وما يعنيه ذلك من قوة أو ضعف، اهتمام أو تهميش من قبل الدولة.
فى ظل هذا الاستقطاب ما بين «المركز» و«الهامش»، «القاهرة» و«بورسعيد»، قوبلت مثلا فكرة أن يكون الحدث مجرد سلوك جماهير غير منضبطة على أنها تبسيط شديد لأمر متغلغل وجسيم. فالقول إن الحدث إنما هو فقط «شغب ملاعب» بين جماهير الأهلى والمصرى، بدا غير ملائم للمزاج الشعبى العام، وهذا أمر مفهوم نظرا للظروف الأمنية والسياسية التى نمر بها. رغم أن تاريخ «شغب الملاعب» دوليا ملىء فعلا بالمآسى. ولعل من أبشعها مباراة «ليفربول» الإنجليزى و«يوفينتوس» الإيطالى فى بلجيكا عام ١٩٨٥ التى قُتل فيها ٣٨ شخصا وأصيب ٦٠٠ آخرون - أغلبهم مشجعون إيطاليون - نتيجة هجوم المشجعين البريطانيين، مما أدى إلى تدافع، فاختناق، حتى إن شغب الملاعب صار معروفا فى كل أنحاء أوروبا فى حينها باسم «المرض البريطانى».
ولكن هل ما حدث فى بورسعيد مجرد «شغب ملاعب» إذن أم خطة، «مؤامرة»، ترتيب أمنى - عسكرى لإحداث الانفلات، فتنتج الكارثة، بهدف إحراز نتائج سياسية محددة؟ ربما لا نستطيع الجزم، فلم تتبين حقيقة تفاصيل هذا الحدث كاملة.
فهناك دورة تصعيد جديدة شهدناها الأيام الماضية نتيجة قرار اتحاد الكرة بإيقاف النادى «المصرى» لمدة موسمين وحظر إقامة مباريات فى استاد النادى لمدة ثلاث سنوات، مما نتج عنه مظاهرات وصلت لرفع شعارات على غرار «إعلان استقلال بورسعيد»، وأسفرت من جديد عن سقوط قتيل وإصابة عشرات آخرين خلال اشتباكات بين قوات الجيش ومحتجين فى المدينة.
فحين أقرأ تصريحا لعضو سابق بنادى المصرى يقول «سوف نسافر إلى القاهرة لمقابلة المسؤولين ونعلن أن رد الفعل سيكون قوياً جداً فى بورسعيد ولن يستطيع أى إنسان إيقاف غضب الجماهير» - أترجم هذا سياسيا على أنه أشبه بأزمة «مركز» و«إقليم» «شعب القاهرة» و«شعب بورسعيد». ولذلك ينبغى أن أتعاطف مع «المظلمة» وأنتبه إليها.
الخطاب الصادر من بورسعيد، ينم عن بوادر أزمة. فمن وجهة نظر الناس هناك حتى لو كان الأمر شغب ملاعب عادياً، ولم يكونوا ضحية وقيعة، فكيف لهم «فرديا» كأهل مدينة أن يُحملوا عبء التأمين فى سياق غياب الأمن بشكل عام فى الدولة كلها؟ هذا الخطاب «المتظلم» بالمناسبة يجد من يتعاطف معه فى الإسماعيلية، مثلا حيث نُظّمت رحلات «لدعم المصرى ومساندة شعب بورسعيد بصفة عامة».
ولكن قرار اتحاد الكرة تجاه «المصرى» كان أيضا مصحوبا بتوقيع عقوبات على «الأهلى» تتضمن إيقافاً وغرامات مالية، مثل دفع مانويل جوزيه غرامة «لسوء السلوك الرياضى» تجاه الحكم وحرمان الأهلى من جمهوره لأربع مباريات رسمية فى مسابقات الاتحاد المصرى، نظرا لإشعال جماهيره الألعاب النارية، وكذلك لأن بمدرجاته «رُفعت» - الفعل مبنى للمجهول - لافتات تحمل عبارات مسيئة لبورسعيد التى تسببت فى غضب الجماهير وشرارة حدوث المجزرة. أليس هذا «عدلاً» بما يكفى يا أهل بورسعيد؟. فهناك من الأهلوية من يستهجن، وله بعض الحق، ويقول «كيف يعاقب الأهلى بثلاث عقوبات رغم سقوط شهداء من جماهيرنا، فهل القاعدة الآن هى معاقبة المجنى عليه ومكافأة الجانى».
فى الأخير قد تكون هذه القرارات «عادلة» للفريقين بشكل بحت ومطلق، أى متبعة للوائح، محددة فى اتحاد الكرة أو الفيفا، التى لن أدعى أننى على علم تام بتفاصيلها. لكن ما أريد لفت النظر إليه هو أن «العدل البحت» قد يكون غير مراع للسياق الجدلى الذى سيتعاطى معه أهل بورسعيد، ولذلك ربما يجب أن يدرك جمهور الأهلى، وأنا منهم، هذا السياق، كيلا تتعقد الأمور وتخرج من إطار الكرة تماما، إلى إطار سياسى بحت، يرى فيه «البورسعيدى» نفسه محاصرا ملاما بتهمة أمن تفوق مسؤوليته وقدراته، فيرى نفسه ضحية «الدولة».