يُعَدُّ الذكر من العبادات الجامعة، فهو يشمل كل أصناف العبادات، وجميعها يشتمل على ذكر الله، سواء كان ذلك الذكر بالإخبار المجرد عن ذات الله تعالى، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، أو بإنشاء الثناء عليه بتقديسه، وتمجيده، وتوحيده، وحمده، وشكره، وتعظيمه. وعليه فتسمى الصلاة ذكراً، وتلاوة القرآن ذكراً، والحج ذكراً، وكل أصناف العبادات ذكراً.
ومع ذلك فإن للذكر معنى أخص وأعمق من هذا المفهوم العام، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» (العنكبوت: 45) فرغم أن الصلاة ذكر بالمعنى الأعم، فإن المراد هنا هو المعنى الأخص حيث فرق الله بين الصلاة والذكر، وكذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة: «من شغله القرآن وذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» (رواه الترمذى)، فالقرآن وإن كان ذكراً بالمعنى الأعم، فإن المراد فى الحديث من الذكر المعنى الأخص حيث فرق بينهما.
وتربية النفس على الذكر بمفهومه الخاص من الخطوات الأساسية فى بناء الإنسان، ولهذا اهتم به علماء الإسلام واستخدموه كأداة مهمة فى تكوين عقلية ومنهج الإنسان المتحضر القادر على تعمير الكون والمحافظة عليه، فكوَّنوا ما عُرِف باسم الباقيات الصالحات وهى خمس كلمات: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم جاء البعض واستكمل هذه الخمسة بخمس كلمات أخرى وأطلق عليها جميعا العشر المنجيات.
والخمس الإضافية هى: أستغفر الله، ما شاء الله، حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، توكلت على الله. وهذه الكلمات العشر هى بالفعل منجيات للفرد وللمجتمع عبر العصور، وقد لجأ إليها المسلمون فى أزماتهم فعبروا بقوتها الأزمات، ونجحوا بمنهجها التربوى فى استكمال حضارتهم وبناء أمتهم.
أما عن تحليل هذه الكلمات الإضافية فأولها: «أستغفر الله»، وتعنى أنى أطلب العفو والصفح والستر من الله، سواء كان ذلك العفو والصفح والستر سبقته معصيةٌ كبيرة أو صغيرة أو غفلة أو تقصير، أيًّا كان السبب. ومفهوم هذا الذكر الرجوع إلى الله متذللاً خاضعاً، وطلب المغفرة منه سبحانه وتعالى لما بدر من الذنوب، وطلب الستر فى الدنيا والآخرة.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر الله ويتوب إليه فى اليوم مائة مرة، وقد حث المؤمنين على ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : «أيها الناس توبوا إلى الله؛ فإنى أتوب فى اليوم إليه مائة مرة» (رواه مسلم).
وأما الكلمة السابعة فهى: «ما شاء الله» وهى كلمة كأنها بحاجة إلى جواب، والجواب مضمر بمعنى «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»، وهذه الكلمة التى يقولها الإنسان يُذَكِّر نفسه بأن ما يراه من رزق حسن له أو لأحد إنما هو بمشيئة الله. ومن فوائد هذه الكلمة أنها تمنع الحسد من الشخص، فإن الحسد قوة شيطانية بداخل الإنسان؛ حيث يتمنى زوال ما يرى من نعمة على أخيه، وبهذه الكلمة يتذكر المسلم أن ما يراه هو مشيئة الله سبحانه وحده، وأن هذا التمنى هو فى الحقيقة اعتراض على قسمة الله عز وجل، فيترك هذا الخُلُق البغيض ويرضى بما قسم الله له، ولا حرج أن يسأل الله أن يرزقه مثل رزق فلان دون أن يزول من رزقه شىء، وهو ما يُسَمَّى الغبطة.
والكلمة الثامنة هى: «حسبنا الله ونعم الوكيل» وهى كلمة عظيمة، تعنى الاكتفاء بالله وحده، والاستغناء عن الخلق، فالمسلم يكفيه الله فى أخذ حقه، ويكفيه الله فى رزقه، ويكفيه الله فى صحته، ويكفيه الله فى شأنه كله، وهو من يقوم بالدفاع عنه، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (الحج: 38).
أما الكلمة التاسعة فهى: «إنا لله وإنا إليه راجعون» وهى ذكر عظيم، يعنى أن الإنسان وما يملكه وما يوجد حوله هو فى الحقيقة ملك لله، وأن هذا الملك سيعود إليه سبحانه لا محالة عندما يأتى الأجل، وهذا الذكر يسلى المؤمنين فى المصائب خاصة مصيبة الموت، فينبغى أن يتذكر المسلم وقتها أن هذا الإنسان الذى توفاه الله هو ملك له سبحانه، وأنه عاد إلى مالكه، فلماذا الحزن من الحق، وعودة الشىء لصاحبه، فكلنا ملك لله، وكلنا إليه راجعون إليه سبحانه.
أما الكلمة العاشرة والأخيرة فهى: «توكلت على الله» وهى كلمة عظيمة المعنى، جليلة الأثر فى قلب المؤمن الصادق، وهى تعنى سأعتمد بقلبى على الله، فهو الملجأ والمعتمد، وهو القادر والفعَّال لما يريد، وهى كلمة قريبة المعنى من الكلمة الثامنة «حسبنا الله ونعم الوكيل»، ولكن هذه الكلمة التى معنا تصرح بأنى نويت وعزمت الاعتماد على الله فى كل أمورى، وقد أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران: 159). كذلك ينبغى أن تكون ذاكراً لهذه الكلمة التى تجمع القلب على الاعتماد على الله والثقة به وحده. ولا يتعارض التوكل على الله بالقلب مع الأخذ بالأسباب فى الدنيا، فإن هذا هو حال سيد المتوكلين صلى الله عليه وسلم.
العشر المنجيات ليست مجرد كلمات يذكرها المسلم ويرددها اللسان، ولكنها أسس منهجية تبنى شخصية المسلم وتُكَوِّن عقله فى إطار راسخ مؤسس للعلاقة بينه وبين ربه، ولا أرى حضارة باقية بدون إنسان قلبه معلَّق بخالقه.