كنت قد كتبت، منذ أسبوعين، عن المعونة الأمريكية ورمزيتها كأداة دبلوماسية، تخرج ميزانيتها من وزارة الخارجية الأمريكية، وتستخدمها الولايات المتحدة فى أكثر من ١٥٠ دولة، على رأسها مصر وإسرائيل، جاعلة هاتين الدولتين مفضلتين بشكل خاص فى الخطاب العام الأمريكى.
وقد أشرت إلى أن حجم المعونة نفسه كرقم بحت، وهو 1.3 مليار دولار كشق عسكرى وبضعة ملايين تتراوح بين ٢٥٠ و٦٠٠ مليون دولار كمعونة اقتصادية - مدنية لمنظمات غير حكومية، لا يشكل سوى «كسر» من ميزانية الولايات المتحدة، التى تصل إلى ٣٤٠٠ مليار دولار سنويا. هذه القيمة المادية لا تشكل أيضا سوى ٣٠٪ من الميزانية العسكرية المصرية، حسب تقديرات متداولة فى تقارير صحفية وأكاديمية دولية، ولا تمثل الكثير من الميزانية الكلية لمصر. إذن كرقم بحت طبعا يمكن الاستغناء عنها من الجانبين!
السؤال: لماذا لا يتم «الانفصال» إذن؟.. الجواب هو أن هناك استفادة مادية ملموسة من الناحيتين، وكذلك استفادة سياسية استراتيجية. بالنسبة للاستفادة المادية، ففى مصر تستفيد المؤسسة العسكرية من إحلال معداتها. وفى أمريكا تستفيد شركات تصنيع الأسلحة التى تتلقى أموالها من هذه المعونة كى تقوم بإحلال تلك المعدات! فوفقا لمقال نُشر مؤخرا فى مجلة Foreign Policy للكاتبة «شانا مارشال»، فإنه فى الوقت الاقتصادى العسير الذى نعيشه، تحتاج تلك الشركات الأمريكية إلى «الحراك الإنتاجى» هذا. إذن لهذه العلاقة «اقتصاد سياسى» خاص بها. ومن ثم تنشأ استفادة اقتصادية للولايات المتحدة ممزوجة باستفادة تقنية عسكرية لمصر. ويبدو أن الطرفين متعايشان مع هذه العلاقة لأنها تشكل مصالح متبادلة.
بالنسبة للشق «الاقتصادى - المدنى» من المعونة، فأيضا تستفيد منظمات المجتمع المدنى من الدعم المالى كى تقوم بنشاطاتها الخيرية أو الخدمية أو التوعوية والتى قد تتخذ شكل توعية سياسية تحديدا كالتوعية بأهمية الانتخاب مثلا دون التطرق لتفضيل فصيل على آخر. لكن يبدو أن تلك المنظمات التى تجرى الإساءة إلى سمعتها وتوجيه التهم إلى أفرادها فى مصر، يتم استهدافها، فى إيماءة للتخلص منها كلياً كعنصر «مجتمع مدنى»، والذى من الظاهر أنه «كان ولايزال وسيظل» يؤرق السلطات المصرية رغم حتمية تعايش هذه السلطات مع فكرة وجوده كقطاع.
صحيح يجب التعايش معه من خلال قوانين واضحة تنظم تلك العلاقة بين الدولة والمجتمع، لكن تبقى الأهمية القصوى للإدراك التام أن «المجتمع المدنى» هذا هو جزء من المعادلات السياسية لكل دولة ديمقراطية فى العالم كله، وأنه هنا ليبقى، بل إنه من مصلحة جميع الأطراف أن يُعترف به ولا يتم تهميشه. لأنه بالنظر إلى تجارب الآخرين، بل وتجاربنا حتى فى مصر، لا يمكن كبته كليا. وأكبر دليل هو حركة الإخوان المسلمين التى تحولت وتغيرت وتشكلت فى أشكال عدة، لكنها فى الأخير ظلت. بيت القصيد هو أنها ظلت.
لكن ماذا عن فكرة «تهديد الأمن القومى»؟.. أردت أن أبحث عن شىء قد يُعتبر «تهديدا للأمن القومى» أو «موضوعا سياسياً شائكا» وما إذا كان قد أقيمت حوله جمعية غير حكومية ما فى الولايات المتحدة، فقمت ببحث عشوائى بسيط ووجدت تلك المنظمة التى تُدعى Women Against Military Madness أو «نساء ضد الجنون العسكرى»: ماذا؟! وما هو برنامجها إذن؟.. يبدو أن تلك الجمعية بدأت منذ الثمانينيات ضد السياسات العسكرية الأمريكية، تدين سباق التسلح النووى فى تلك الحقبة، وتشجب حرب الخليج فى التسعينيات ومساندة لفلسطين. بل إنها كذلك ضد كل أشكال «الحرب على الإرهاب» فيما تلا ١١ سبتمبر. إذن من المفروض أن يُنظر إلى هذه المنظمة على أنها ضد السياسات العليا للدولة! ضد سياسات الحرب وخطاب الأمن القومى، بل إنها تقوم بتنظيم اللقاءات والندوات والمظاهرات فى هذا الشأن. كيف لها أن تعمل إذن؟ الفكرة أنها فى إطار بلد ديمقراطى يجب لها أن تعمل!
إذن يبدو أن هناك ضرورة ملحة لنقاش عام لفكرة تعايش الدولة والمجتمع ككل مع فكرة «التنظيم غير الحكومى»، عوضا عن مبدأ «المحظورة». فالجوهر الديمقراطى ينطوى على حرية عرض الأفكار وللمواطن أن يقبل الطرح وينضم إلى ما يعبر عن أفكاره أو ينأى عن الأفكار المطروحة فتُهمّش المنظمة المعنية تلقائيا. كل هذا يجب أن يتم فى إطار قانونى يسمح بحرية التعبير ولا يسمح بالعنف أو التخريب. ولكن فلتوضع تلك القوانين المُنظمة أصلا كى ننأى بأنفسنا عن سياسات مرتبكة داخليا وأخرى خارجيا، تجعلنا نظهر فاقدى الثقة بالنفس إزاء العلاقة المصرية - الأمريكية شاعرين بالخوف والاضطراب فى التعامل معها كدولة كبرى مهيمنة لكن تربطنا بها علاقات سياسية، وليكن عوضاً عن كل هذا إرساء فعلى لفكرة «الشراكة» التى تستخدمها كل من تركيا وإسرائيل فى خطابهما الندى مع الولايات المتحدة، بهدف «نحت» مساحات أكبر لنفسهما والتخلص التدريجى من تهمة «التبعية»، رغم حقيقة حجمه، الأصغر فى علاقتهما بأمريكا.