مغتربون فى قلب الوطن

أميرة عبد الرحمن الجمعة 02-03-2012 21:01

أطبق شفتيه ورفض إلقاء النشيد الوطنى، فقامت عليه القيامة داخل إسرائيل، ولم يكترث له عربىٌ خارجها.

واقعة بطلها سليم جبران، قاضى المحكمة العليا الإسرائيلية، الذى رفض ترديد النشيد الوطنى الإسرائيلى «هاتكفاه» (الأمل)، وظهر فى مقطع فيديو خلف شيمون بيريز وبنيامين نتنياهو فى إحدى المناسبات الرسمية مطبق الشفتين، بينما يردد كبار المسؤولين من حوله النشيد الذى يَعِد اليهود بأرض فلسطين.

تلخص تلك الواقعة أزمة ولاء الغالبية العظمى من عرب 48 بين وطن يسكنهم (فلسطين)، ودولة يسكنونها (إسرائيل).

فى عام 2009، شاركت بالتغطية الصحفية فى باريس لأحد المؤتمرات المرتبطة بـ«الاتحاد من أجل المتوسط»، الهادف إلى إدماج إسرائيل عنوة فى المحيط العربى، بذريعة التعاون الثقافى والتجارى بين دول شمال وجنوب البحر المتوسط. كنا مجموعة من الصحفيين من مصر ورام الله والأردن والمغرب والجزائر، مقابل 3 صحفيين وسيدة من إسرائيل.

 بادرت السيدة وزوجها بإلقاء التحية، أجبنا باقتضاب ثم غادرنا. وكما هو الحال دائما فى مثل هذه المحافل، التف الصحفيون العرب وانغلقنا على أنفسنا فى نفور تلقائى من التعامل مع الصحفيين الإسرائيليين، الذين انكفأوا بدورهم على بعضهم البعض. ساعات وكنا فى مؤتمر صحفى وجهت فيه سؤالى لمساعد الوزير عن دعم دولته، التى قامت على مبادئ الحرية والعدالة لإسرائيل، رغم عنصريتها وتمييزها ضد فلسطينيى 48. فى تلك اللحظة، هز 2 من الصحفيين الإسرائيليين رأسيهما يمينا ويسارا، تعبيرا عن استيائهما الشديد من السؤال، بينما كانت السيدة وزوجها يومئان برأسيهما إيجابا بحماس أشد.

ما إن خرجنا حتى بادرت السيدة مجدداً بالحديث معى، قائلة: «أشكرك، أولاً لأنك عبرت عنا بشجاعة أمام هؤلاء اليهود، بما تسبب فى إحراجهم، وثانياً لأنك لم تسئى الظن بنا كالكثيرين من العرب ممن يعتبروننا عملاء، خنا القضية، ولا نستحق منهم الاحترام أو حتى مجرد التعاطف». فوجئت واعتذرت لها: «لم أدرك أساسا أنك وزوجك من فلسطينيى 48»، عاتبتها: «لماذا لم تنضما إلينا؟». أجابت بعتاب رقيق: «حاولنا، لكنكم قابلتمونا بجفاء.. للأسف، هذا ما يحدث لنا عادة، لقد تعودنا». بالفعل، لم تشفع لهما حقيقة هويتهما عند باقى الصحفيين العرب الذين فوجئت بهم مازالوا يرفضون الاندماج معهما طيلة أيام المؤتمر.

كنت أرى بنفسى الزوجين يحاولان التقرب من باقى الصحفيين الفلسطينيين، فلا يُقابلان إلا بالصد. وجدتهما بمرور الوقت لا يجدان سوى الصحفيين الإسرائيليين للجلوس معهم، فكنت أسعى لاستعادتهما ليقضيا معنا أكثر وقت ممكن، ولو لأيام معدودة، وهو ما كانا يقابلانه بامتنان واضح ورغبة متدفقة فى المكوث بيننا.

فى اليوم الأخير ونحن فى طريقنا للمطار، كلٌ إلى وجهته، ضمتنى السيدة الفاضلة «آمال كرام» إليها بامتنان، وقالت بتأثر شديد وعربية بليغة: «أتمنى أن نظل على تواصل، نحن فى أمس الحاجة إليكم، لا تشعرونا بأننا وحدنا، صحيح أننا نحمل جنسية إسرائيل، هذا لأننا اخترنا الصمود على أرض فلسطين.. لا تدفعونا لننسى أننا عرب، لا تتركونا فريسة للصهاينة».

تذكرت كلماتها وأنا أشاهد صورة القاضى «جبران» واقفاً بشموخ، مطبقاً شفتيه، خِلته يرسم على ملامحه ابتسامة صمود تتحدى الاحتلال، وتسخر من قادته، ابتسامة صامتة يقاوم بها الاغتراب فى قلب الوطن.

amira_rahman@hotmail.com