تغير مفهوم الدولة ودورها في العالم منذ الثمانينيات من القرن الماضي، حيث سعت الدول الديمقراطية للتخلص من عقدة الوصاية على الشعب، وامتلاك حق تقرير مصيره، فالفردية أتاحت لكل مواطن حق اختيار مستقبله وتقرير مصيره بنفسه، ولكن ضمن ضوابط وقواعد تنظيمية عامة يجب احترامها ما دامت لا تتقاطع ولا تتعارض مع حقوق وحريات الآخرين، لكن هل تحققت بذلك الديمقراطية الكاملة؟ هل توصل الغرب إلى جمهورية أفلاطون، واهتدى إلى المدينة الفاضلة، والفردوس المفقود؟
قبل أيام تصدرت الدنمارك مقياس المفوضية الأوروبية للسعادة، الذي تتصدره منذ 40 عاما على التوالي، في حين حلت في المركز الثاني، حسب مؤشر الازدهار الذي يصدر عن معهد ليجاتوم، لكن شعب الدنمارك يظل أكثر شعوب العالم في مؤشر الرضا عن أداء حكوماته، ففي هذا البلد الذي هجاه أميره هاملت، وسخر من فساده في جملته الشهيرة أشم رائحة عفن في الدنمارك، يتمتع المواطن الآن بقدر كبير من الأمن الجنائي والغذائي والبيئي والعلاجي، ورفاهية المعيشة بشكل عام، فيما خرجت أمريكا لأول مرة من قائمة العشرة الأوائل، وتراجعت إلى المركز الثاني عشر!
لكن هل يشعر الدنماركي بالسعادة؟
سأل باحث أمريكي زميله الدنماركي، خلال مناظرة تليفزيونية، فرد عليه موضحا أن الرضا عن الأداء لا يعني السعادة، فالسعادة أمر فردي ونسبي، أما الأداء، فهو أمر يتعلق بالحقوق المتبادلة بين المواطن والدولة، ورغم أن هناك دولا أخرى تسبق الدنمارك في مؤشرات فرعية، مثل نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي، أو متوسط الأعمار، أو الاحتياطي النقدي والاقتصادي عموما، إلا أن شعب الدنمارك يتمتع بأكبر قدر من الإيجابية في العلاقات الاجتماعية، ومتانة الثقة بين الشعب والسلطة، وتدني نسبة البطالة، وتأمين الحياة خاصة في مراحل الشيخوخة، وخفض ساعات العمل للشباب، بحيث لا تزيد على 32 ساعة أسبوعيا، إلا فيما ندر، وهذا يتيح لهم وقتا أفضل للتمتع بحياتهم ورعاية أسرهم، والاسترخاء النفسي والذهني بعيدا عن التوتر، كما أن المساواة أمام القانون لا تفرق بين ابن القاضي وابن عامل النظافة.
التشبيه الأخير يذكرنا بحالنا في مصر، ويدعونا للغبطة والتساؤل: متى نصبح من الشعوب السعيدة، أو الراضية عن أداء حكومتها؟ ومتى نستعيد جسر الثقة بين الحاكم والمحكوم؟ وكيف يضمن أن نحافظ على هذه الثقة بلا خديعة؟ فلا تتحول إلى (تسليم) أو (توكيل عام) لإدارة كل شىء، دون مراجعة أو محاسبة؟ كيف نتخلص من القمامة والبطالة، ونشرب من مياه الصنبور في البيت والعمل، ونجلس في الحدائق العامة بلا خوف أو استغلال؟
هذه الأسئلة لا تعبر عن أمنيّات مستحيلة، وإجاباتها ليست بعيدة، إذا رأيناها حقوقا طبيعية في الحياة، وليست خرافات وتبطر، فمنذ حكم عبدالناصر لم يرتفع مؤشر الرضا بين الشعب والحاكم، كما ارتفع مع ظهور نجم السيسي في الحياة السياسية، فقد تحول خلال أيام إلى بطل شعبي يشبه أبطال الأساطير، وبالتالي هبط الرضا من السماء، لم ينتظر أداء حكومة، أو تقييم أداء، لقد أصبح معظم الشعب راضيا عما يفعل السيسي، وليس سواه، وأثبتت الأغلبية أنها لن تخذله، وأنها على استعداد لأن تتحمل، وتقبل منه ما لا تقبله من سواه.
إذن لدينا الآن أرض نقف عليها، ولدينا كنز من الثقة ظهر فجأة عندما هدمنا جدار التسلط الديني والاحتكار السياسي في 30 يونيو، لا يبقى أمامنا الآن إلا أن نحمد الله على هديته، ونعمل من أجل تثبيتها في الواقع، من خلال سياسات وقواعد نقترب فيها من إنجازات الدول التي تتصدر مؤشر السعادة والرضا، فنحقق الأمن، ونحسن المرافق والخدمات، ونحد من البطالة، ونؤمن أن حياة المواطن هي مقياس نجاح أي سلطة وفشلها.
هذا ما أتمناه، وهذا ما نستطيعه.