إن اتهام المعارضين لما يُسمَّى «الحلم النووى» بأنهم «عملاء اللوبى الصهيونى» هو نموذج فج على همجية التفكير، فكأننا بين همجيتين، همجية ادعاء البعض بأنهم محتكرو دين الله فى الأرض، وهمجية ادعاء آخرين بأنهم محتكرو الوطنية فى بلادنا. وهذه الهمجية النووية تعكس نزقاً يجعلنا نتساءل: هل هؤلاء يصلحون حقاً لصدق وموثوقية التبشير باستقدام تقنية عالية المخاطر كالمحطات الكهرونووية؟ ناهيك أن يكونوا المشرفين عليها أو على مُشغليها أو حتى مُستشاريها؟ ومن الزاوية النفسية، فإن تقنية مركبة وعالية المخاطر كالمفاعلات النووية ثبت أن أشهر كوارثها كانت بسبب أخطاء فى الأداء البشرى، نتيجة الثقة المبالغ فيها لدى ضيقى أفق التخصص المغلق على ذاته، ونتيجة لنمطية اعتياد العمل فى مرافق تدير نفسها بنفسها، ببرمجة شبه كاملة، ومن ثم تتطلب ردود أفعال عميقة الحكمة والمعرفة، لا متسرعة، ولا متأخرة، فى اللحظات الحرجة المنذرة بالكوارث، لهذا أقول بأن هذا النزق الذى تكشفه همجية الاتهامات للمخالفين يقطع بأنه حتى لو كان فى المفاعلات الكهرونووية خلاصنا من أزمة الطاقة- وهذا غير صحيح- فإنه لابد من التريث إلى حين ميسرة ومقدرة، ميسرة اقتصاد واستتباب أمن وتماسك مجتمعى وهدأة جوار ومحيط، ومقدرة علم وتقنية وقيم عمل محترمة وعالية الانضباط، النفسى والمهنى معا، ومن ثم- على الأقل- علينا أن ننتظر صعود جيل نووى جديد، غير مثقل بالهمجية والنزق الناتجين عن الركود الطويل لمن عاشوا «موظفين» نوويين، خاصة فى المنظمات «الدولية»، يومها سيكون الحوار موضوعيا ومحترما، لهذا أقول لنفسى ومن أُماثلهم: قل كلمتك وامض ولا تلتفت.
■ ■ ■
عندما مر صاروخ نووى عابر للقارات من نوع «توبول» على مقربة أمتار قليلة منى، تولانى خليط من الرهبة والذهول والشعور بعدم واقعية ما أراه، فقد كان ذلك وحشا فولاذيا أسطوانيا بطول عشرين مترا وقطر مترين، يتمدد على شاحنة بالغة العملقة غريبة الشكل تجرى على ما يقارب عشرين إطارا عاليا ضخما، وحش تتبدى إلى جواره وحوش ما قبل التاريخ مجرد هوام بائسة وبالغة الضآلة، حتى تلك الأنواع الخرافية التى تنفث من أفواهها الوحشية دفقات اللهب، فلهيب الرأس النووى فى الصاروخ توبول عند انفجاره يذيب البشر والشجر والحجر، ويُفنى مدينة يسكنها عدة ملايين فى لحظات.
كان ذلك فى الاتحاد السوفييتى السابق، فى الشهر الأول الذى مكثته فى موسكو، قبل أن أستقر فى كييف، بأحد الشوارع الفسيحة التى يبلغ عرضها قرابة المائة متر والتى يدعونها «بروسبكت»، وعبر السنوات الثلاث التى عشتها فى تلك الإمبراطورية الهائلة الزائلة، تكررت رؤيتى لتلك الوحوش التى تظهر فجأة وهم ينقلونها من مكان إلى مكان، دون أى إجراءات استثنائية لافتة لتأمين مرورها الداهم، وكان ذلك شعورا بالجبروت النووى لقوة عظمى، لكن هذه الوحوش النووية لم تلبث حتى جار عليها الزمن، مع انتهاء الحرب الباردة وتفعيل اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية بين قطبى الأمس، فتم تفكيك آلاف الرؤوس النووية لهذه الصواريخ عابرة القارات، واستُخدمت مادتها النووية الانشطارية، خاصة البلوتونيوم، كوقود مشارك- بعد تخفيفه باليورانيوم الطبيعى أو المنضب- لتشغيل المحطات النووية لتوليد الكهرباء، وأدى ذلك إلى وفرة فى سوق الوقود النووى، وازدهار فى تجارة المحطات النووية، ثم نفدت هذه القنابل المُفكَّكة وتلاشى عطاؤها، لتفضح أحد أوضح الأباطيل النووية، القائل بأن هناك وفرة سرمدية من الوقود النووى لمفاعلات قائمة، وأخرى يرجون لها قياما، فى العالم، ولدينا- وهذا هو الأهم.
مسألة الوقود النووى، بكل دورته- من الاستخراج والتجهيز فالتخصيب فالتشغيل فالتخلص من النفايات- لا شفافية فيها عندنا حتى الآن، وفلتات لسان بعض مروجى أو مؤيدى النووى لدينا تنم عن تضارب مفزع، فأحدهم تكاد تستخفه الصيحة بأن لدينا يورانيوم وثوريوم للحصول على الوقود النووى «بالهبل»، وآخر يصرح بأن مُورِّد الوقود النووى مسؤول عن أخذ نفاياته، وثالث يحبذ رفضا لاستيراد الفحم- الذى أرفضه قطعا- أن نستورد الوقود النووى من روسيا، والأرجح أن شراءنا لمفاعل نووى سيرهننا لاستيراد هذا الوقود، وهنا سنكتشف أن هذا الاستيراد، حتى مع حسن نوايا من سنستورد منه، لا ضمان لتأمينه، فهو يتجه إلى الندرة بعد الوفرة، حيث لم تعد هناك قنابل نووية يتم تفكيكها لتغذية الوفرة التى كانت، والتى انقضت واقعيا فى السنة الفائتة 2013 وربما قبلها.
أنا لا أخترع معلومات، بل أنقلها بعد التقليب فى منطقيتها وفهم دقائقها واستكمالها بالمضاهاة مع ما يناقضها أو يؤيدها، وفى موضوع هذا المقال، أعتمد على تقرير «أساطير الطاقة النووية- كيف يخدعنا لوبى الطاقة: ذر الرماد فى العيون»، الذى أصدرته مؤسسة «هنريش بول» الألمانية، وأعده بالاعتماد على عشرات المراجع والوثائق المهمة «جيرد روزنكرانتس»، الحاصل على دكتوراه فى علم المواد وماجستير فى الهندسة ودراسات عليا فى علوم الاتصالات، وهو بعد ذلك صحفى متخصص فى سياسات البيئة والطاقة بمجلة «دير شبيجل» فى برلين. والتقرير مُتاح على شبكة الانترنت. وأوجز فضحه لأسطورة توافر الوقود النووى فيما يلى:
1- حتى سنة 2010 كان مصدر ما يقارب نصف اليورانيوم الذى يتم شطره فى محطات الطاقة النووية من الإرث النووى «الحربى» للترسانتين الأمريكية والسوفيتية، خاصة السوفيتية.
2- بعد نفاد المادة الانشطارية من الرؤوس النووية الحربية التى تم تفكيكها وتخفيفها بيورانيوم طبيعى أو منضب لتشغيل المحطات الكهرونووية، حدث احتياج مُلح لإعادة فتح مناجم اليورانيوم القديمة، والبحث عن جديد غيرها، لكن ما يتم الحصول عليه- بعد تجريف اليورانيوم إبان سباق الحرب الباردة النووى- لا يعطى إلَّا يورانيوم فقير، قليل الفعالية ويحتاج معالَجات مُكلِّفة وضارة بالعاملين والبيئة المحيطة.
3- على مستوى العالم تُعتبر كندا وجنوب أفريقيا الوحيدتين اللتين تستخدمان يورانيوم من مناجمهما لتشغيل محطاتهما الكهرونووية دون حاجة لاستيراده (مع ملاحظة أن جنوب أفريقيا فككت مخزونها النووى الحربى واستخدمته أيضا كوقود مشارك فى محطاتها النووية بعد زوال الحكم العنصرى وتولى مانديلا الحكم).
4- أهم الدول التى تعتمد على المحطات النووية لتوليد الكهرباء، بالكاد تُنتِج يورانيوم يكفيها، وهى: فرنسا واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا والسويد. أو تُنتج أقل مما تحتاجه لتشغيل مفاعلاتها كالولايات المتحدة التى تعتمد على المناجم الكندية، وروسيا التى كانت تعتمد على مناجم بلدان شرق أوروبا وآسيا الوسطى (كازاخستان وأوزباكستان).
5- مشغِّلو المحطات النووية فى الاتحاد الأوروبى يُرجَّح دخولهم فى مأزق بعد أن كانوا يستوردون ثلث وقود محطاتهم من روسيا، إضافة لاحتكاراتهم فى المناجم الأفريقية.
6- شُح اليورانيوم الطبيعى الفعال أدى للتوسع فى صناعة البلوتونيوم سريع الانشطار الذى يُستخدم فى صناعة القنابل النووية بإعادة تدوير الوقود النووى الناتج من مولدات سريعة، وهذا يؤدى إلى مضاعفة احتمالات المخاطر وزيادة النفايات عالية الإشعاع التى تتطلب تخزينا دائما فى مدافن نهائية لم يتوصل العالم لحسمها بعد.
■ ■ ■
لقد أوردت هذه الرؤية، لا لمجرد منطقية مكوناتها، بل لظهور بوادر سباق تسلح جديد، تتهم فيه الولايات المتحدة روسيا بخرق اتفاقيات الحد من التسلح وتطوير وتجريب صواريخ استراتيجية جديدة، أما روسيا فهى تُدفع إلى نفق من حصار حلف الناتو لها، وما يحدث فى أوكرانيا ليس إلا عينة، ويبدو أن التفكير السائد يُملى على روسيا أنه لا خروج لها من هذا النفق، إلا بقوة صواريخ نووية مطورة تفوق صواريخها القديمة التى مر أحدها بقربى منذ سنوات، وهى سلسلة «توبول» أو SS، المشهورة فى بعض مجلات الأسلحة باسم «الشيطان»! فهل يُبقِى لنا شياطين الروس كما أبالسة الأمريكان، النوويون، وقوداً مُستداماً لأحلامنا- وبالأحرى أوهامنا- النووية؟!
منطقياً، وتبعاً لما يحدث فى العالم الآن: لا أعتقد.