هل يستطيع نيكولاس ساركوزي أن يعيد اختراع نفسه كطبيب يشفي الدولة الفرنسية الممزقة من أوجاعها، على الرغم من أنه أحد أكثر الشخصيات التي انقسمت حولها آراء المواطنين في الساحة السياسية الفرنسية الحديثة؟
فبعد أن أمضى عامين فقط متجولا في صحراء السياسة في أعقاب هزيمته في الانتخابات الرئاسية أمام فرانسوا أولاند عام 2012، أعلن ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق الذي ينتمي إلى التيار المحافظ في نهاية الأسبوع الماضي عن مسعاه للعودة إلى حلبة السياسة من جديد.
ولم يحمل هذا الإعلان في طياته أي مفاجأة لأحد.
إنه لم يبتعد على الإطلاق عن الساحة، كان هذا هو رد فعل الكثيرين في فرنسا الذين أشاروا إلى سلسلة اللقاءات الإعلامية المتواصلة التي شارك فيها ساركوزي الذي يبلغ من العمر 59 عاما خلال العامين الماضيين، كدليل على أنه كان ينتظر كامنا في الظل متحينا فرصة الانطلاق.
ومنذ يونيو 2013 أي أقل من مرور عام على خسارته الانتخابات الرئاسية كان ساركوزي يتحدث عن عودته إلى الساحة السياسية كأمر ينبغي عليه أن ينفذه «ليس بسبب الرغبة» وإنما «بدافع الواجب» من أجل إنقاذ البلاد من قبضة حزب «الجبهة الوطنية» الذي يقف في أقصى اليمين.
وعلى الرغم من توقع هذه العودة إلا أن ثمة عوامل غير معروفة تتعلق بكيفية تحقيق هذه العودة وتوقيتها.
وكان رجال ساركوزي قد اقترحوا أن ينتظر حتى عام 2015 قبل أن يمتطي صهوة جواد العودة من أجل الإنقاذ، وذلك على غرار الجنرال ديجول الذي عاد من تقاعده عام 1958 لانتشال فرنسا من حافة الحرب الأهلية.
غير أن ساركوزي في النهاية قرر اختيار عودة أقل جذبا للأضواء من ديجول.
وبدلا من الإعلان بشكل مباشر عن الترشح في انتخابات الرئاسة التي ستجرى عام 2017، أعلن ساركوزي ترشيحه لزعامة حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، الذي ينتمي لتيار الوسط اليميني في الانتخابات التي ستجري في نوفمبر المقبل.
وظلت رئاسة هذا الحزب شاغرة منذ مايو الماضي عندما استقال جان فرانسوا كوبيه، بسبب فضيحة تتعلق بإنفاق ملايين من اليوروات بشكل تبذيري على الحملة الانتخابية لساركوزي عام 2012.
وتعهد ساركوزي الذي نفى أي علم له بهذه المسألة بإنهاء موجة من الصراع بين الأجنحة المختلفة داخل حزبه، وإقامة «تجمع جديد وواسع يمكن أن
يتحدث لكل الفرنسيين».
ويبدو أن قيادات حزبه يريدون منحه فقط منصة للانطلاق تؤهله لخوض انتخابات الرئاسة.
ونصب ساركوزي نفسه في مقابلة تليفزيونية أذيعت في ذروة أوقات المشاهدة كمنقذ لكل من الحزب والبلاد.
وقال ساركوزي في المقابلة «إنني لم أعهد من قبل وجود كل مشاعر اليأس هذه، ولم أخبر مثل هذا الغضب على الإطلاق، كما أنني لم أشهد مثل هذا
الافتقار إلى التطلع نحو المستقبل»، وبدا ساركوزي في البرنامج وقد بدت على محياه علامات الألم وهو يرسم صورة دولة تحولت إلى أنقاض بعد عامين من تولى أولاند الحكم.
وأوضح بلهجة تنم عن الاستسلام أنه أمام الاختيار بين المشهد المهين الذي يراه الفرنسيون حاليا وبين إمكانية أن تتعرض البلاد لعزلة كاملة في ظل حزب الجبهة الوطنية، فإنه ليس أمامه أي خيار سوى أن يقدم بديلا.
واعترف الرجل الذي وصف بأنه ساركوزي المتسرع بسبب أسلوبه المندفع، بأخطائه السابقة، وأكد أنه مع التقدم في العمر تأتي الحكمة والنظرة
العقلانية.
غير أن ثمة إشارات سريعة جاءت أثناء المقابلة توضح قابلية ساركوزي للاستثارة التي كان عليها عندما كان رئيسا، وذلك عندما ضغط عليه مقدم
البرنامج وسأله عن مجموعة كبيرة من القضايا المقامة ضده بما فيها الاتهامات بالفساد فيما يتعلق بالتحقيق حول التجاوزات المالية في حملته الانتخابية.
فقد سأل مقدم البرنامج في قناة فرنسا الثانية قائلا «هل تعتقد أنني أفتقر إلى الذكاء؟، إذا كان يتعين على أن أندم على شيء فهو على الأقل دخولي إلى عالم السياسة».
وزعم ساركوزي أنه لا يفكر أبدا في «الانتقام»، كما أنه تلعثم وهو يهاجم بقوة الرئيس أولاند متهما إياه «بترديد الأكاذيب»، كما اتهم جهة الادعاء القضائي التي وضعته تحت التحقيق بأنها داست على كرامته.
ويتضح من الإجماع الواسع بين المعارضة ووسائل الإعلام أن صورة ساركوزي تتمثل في أنه رجل لا يزال يتعين عليه أن يتجرع دواء الهزيمة المر.
وقالت كاتبة العمود بصحيفة لوموند فرانسواز فريسوز «إن مرور عامين من التطهر من الأخطاء لم يغير أي شيء، فنيكولا ساركوزي يريد السلطة،
السلطة كلها، هذا هو الشيء المؤكد الوحيد بعد المقابلة التليفزيونية التي أجراها».
أما صحيفة «سود-أوست» فقد وصفت ساركوزي بأنه يشبه «نابليون ويسعى إلى العودة من منفاه بجزيرة إلبا»، والذي ينتظر معركة «واترلو» أخرى يمكن أن يشنها ضده منافسيه داخل نفس معسكره السياسي.
ومن بين هؤلاء المنافسين رئيس الوزراء السابق وعمدة مدينة بوردو حاليا آلان جوبيه والذي تشير استطلاعات الرأي العام إلى أنه السياسي المفضل
لدى الفرنسيين، وقام بالفعل بإلقاء قبعته في حلبة سباق الانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2017.
وحيث إن نتائج استطلاعات الرأي العام أشارت إلى أن ثلثي عدد الناخبين تقريبا يعارضون عودة ساركوزي، فإن الرئيس السابق والملاكم، أمامه تل
ينبغي عليه أن يتسلقه لكي يستعيد قلوب وعقول الفرنسيين.
واعترف ساركوزي بمثل هذا الوضع في مقابلة مع صحيفة ديمانش حيث قال: «لقد بدأت مسيرة طويلة».