لا أحد يعرف المصدر الذى استندت إليه بعض الصحف الخاصة والمواقع الإلكترونية للإلحاح فى منتصف الأسبوع الماضى، على القول بأن مجلس الوزراء سوف يقرر تعديل قانون تنظيم الحق فى التظاهر، خلال اجتماعه الذى كان مقرراً عقده يوم الأربعاء الماضى، ولكن الخبر انتقل بسرعة الصاروخ - وفى الليلة نفسها - إلى برامج «التوك شو» التى عقدت مناظرات بين المؤيدين والمعارضين لتعديل القانون، انطلق المشاركون فيها جميعاً من افتراض بأن الخبر صحيح، من دون أن يبذل أحد أبسط مجهود للتثبت من صحته، عبر مندوبيهم فى مجلس الوزراء، أو عبر المتحدث الرسمى باسم المجلس، الذى لم ينف الخبر إلا بعد انفضاض جلسة المجلس، وبعد أن اكتشف الجميع أن الخبر كاذب جملة وتفصيلاً.
لكن التعليقات على الخبر الكاذب، وتجدد المناظرة حول تعديل القانون، كان لابد أن تستدعى وقائع غير دقيقة، من بينها القراءة الخاطئة للتصريح الذى أدلى به وزير الخارجية الأمريكى رداً على سؤال ملغوم من مندوبة وكالة «رويترز» للأنباء، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة، فى إطار سعيها لتشكيل تحالف دولى ضد الإرهاب الذى تمارسه جماعة داعش فى المنطقة يضم مصر، سوف تتخلى عن مطالبة الحكومة المصرية بتحسين حالة حقوق الإنسان أشار فيه إلى أنه تطرق خلال لقاءاته بالمسؤولين المصريين، ومنهم الرئيس السيسى، إلى خطوات التطور الديمقراطى وملف حقوق الإنسان وقانون التظاهر، ما دفع البعض للإيحاء بأن هناك صلة ما بين ما جرى فى هذه اللقاءات وما اعتبروه تغيراً مفاجئاً فى موقف الحكومة، ودفعها للإسراع باتخاذ خطوات تعديله، ودفع آخرين للتحذير من ذلك، حتى لا يبدو وكأن مصر 30 يونيو قد تنازلت عن قرارها المستقل، وخضعت للضغوط الأمريكية.
تلك قراءة خاطئة لتصريحات «كيرى» التى لم تشر صراحة أو تلميحاً إلى أنه تلقى وعداً ممن التقاهم من المسؤولين المصريين بتعديل قانون التظاهر، وما فهمته مما قاله أن المسؤولين المصريين - ومن بينهم الرئيس السيسى - أكدوا له أن مصر بلد يقوم دستوره على الفصل بين السلطات واستقلالها، وأن السلطة التنفيذية لا تستطيع أن تتدخل فى أعمال السلطة القضائية، وأن الطعن فيما يصدره القضاء من أحكام ينظمه القانون.
وفضلاً عن القراءة الخاطئة لتصريحات «كيرى»، فقد قرأ البعض خطأ قرارين آخرين أصدرتهما محكمة الجنايات التى تنظر قضية التظاهرات التى أحاطت بمبنى مجلس الشورى، فور صدور قانون تنظيم التظاهر، يقضى أحدهما بالإفراج عن الناشط السياسى «علاء عبدالفتاح»، ويقضى الثانى بتنحى رئيس المحكمة عن نظرها، وربط بينها وبين الخبر غير الصحيح، بأن مجلس الوزراء سوف يعدل قانون التظاهر، فى حين أن قرار الإفراج - وهو من سلطة محكمة الموضوع بعد إحالة القضية إليها - ليس الأول من نوعه فى مثل هذه القضايا، فضلاً عن أنه إفراج على ذمة المحاكمة يمكن للمحكمة أن تلغيه فى أى وقت.. أما القرار الثانى فهو يقضى بتنحى رئيس المحكمة التى تنظر القضية عن نظرها، وهو قرار أشارت الصحف بشكل عابر إلى أنه صدر بناءً على طلب الدفاع عن المتهمين وليس له علاقة بنص قانون التظاهر، ولا بالادعاء بأن مجلس الوزراء سوف يقوم بتعديله.
وبصرف النظر عن مزاج الإثارة، الذى يتلبس بعض الصحف وأجهزة الإعلام ويوقعها فى مطبات تقودها إلى تصديق خبر مصطنع، لتنطلق منه لتنظيم المناظرات وإقامة المناحات، فقد جددت المناقشات حول هذا الخبر الكاذب الخلاف حول قانون «تنظيم الحق فى الاجتماعات العامة والمواكب والمظاهرات السلمية»، وهو القانون رقم 107 لسنة 2013 الذى صدر فى 23 نوفمبر 2013.
وتكشف المناقشات التى دارت خلال الأسبوع الماضى عن أن كثيرين قد نسوا الظروف التى صدر فيها هذا القانون، لكى يحل محل قانون كان قائماً بالفعل، هو القانون رقم 14 لسنة 1923، وإلا ما تجاهلوا الحقيقة التى تقول إن القانون صدر بإرادة شعبية كاسحة، وإن الحكومة التى كانت قائمة آنذاك، وهى حكومة د. حازم الببلاوى قد ترددت طويلاً فى الاستجابة للإلحاح عليها بإصداره، وأن الذين كانوا يلحون على ذلك كانوا يمثلون شرائح واسعة من الشعب تعرضت مصالحها لأضرار بالغة، ما دفع الذين تقع متاجرهم فى محيط ميدان التحرير للاشتباك مع المتظاهرين والمعتصمين، ودفع المعتصمين للاشتباك فى معارك مع الباعة المتجولين، الذين حولوا الميدان إلى ممر تجارى ليختلط الحابل بالنابل، والذين يستخدمون حق التظاهر السلمى للتعبير عن مطالب عامة وعادية، بالذين يستغلونه للبحث عن منافع - بعضها سياسى - عاجلة، ويختلط الثوار بالبلطجية واللصوص والمتحرشين جنسياً، ويضيع المناضلون من أجل الحرية والعدل فى زحام الجماعات الفوضوية التى لا تؤمن بالديمقراطية، ولكنها تسعى لهدم الدولة، لكى تقيم على أنقاض الوطن خرائب ينعق فيها البوم والغربان والخرفان الذين ينتمون إليها.
وتكشف المناقشات التى دارت خلال الأسبوع الماضى، عن أن المشكلة لا تكمن - أساساً - فى عدد من مواد القانون التى يطالب البعض بتعديلها خشية أن تستغلها السلطة التنفيذية فى تقليص الحق فى التظاهر، ولكن تكمن أساساً فى هؤلاء الذين يطالبون بإلغاء القانون، وبألا يكون هؤلاء قانوناً لتنظيم ممارسة الحق فى التظاهر، بحيث يستطيع من يشاء فى أى وقت يشاء أن ينظم مظاهرة من دون أن يخطر أى جهة فى الدولة، وكأن بقية مواطنيها ليست لهم حقوق ينبغى أن تصان، وهى دعوة فوضوية لا صلة لها بالديمقراطية، ولم يرد لها ذكر فى المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، التى تصون فقط حق التظاهر السلمى ولا تعتبر التظاهر بزجاجات المولوتوف والشماريخ والمطاوى حقاً ينبغى أن يصان، فضلاً عن أنها تنطوى على مخالفة صريحة للمادة 73 من الدستور المصرى القائم التى تنص على أن «للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، غير حاملين سلاحاً من أى نوع، بإخطار على النحو الذى ينظمه القانون»، وهو ما يعنى أن إلغاء قانون تنظيم حق التظاهر السلمى من الأصل أو إلغاء النص فيه على ضرورة إخطار السلطات المعنية قبل أى تظاهرة، هو مخالفة صريحة للدستور، وكان ذلك هو المنطق الذى أخذ به الزعيم الراحل «سعد زغلول» حين اعترض عام 1924 - بصفته رئيس الوزراء ووزير الداخلية - على قرار اتخذه مجلس النواب بإلغاء قانون التظاهر لعام 1923، بدلاً من تعديله، أو إصدار قانون يحل محله.
والذين يطالبون بإلغاء قانون تنظيم حق التظاهر السلمى أو تعديله، يزعمون أن القانون لم يحقق الهدف الذى صدر من أجله، وهو مواجهة استغلال جماعة الإخوان المسلمين لحق التظاهر فى إشاعة الفوضى والخراب فى البلاد، بدليل أن هذه المظاهرات لاتزال مستمرة، وهى قراءة خاطئة للواقع، وحتى صدور القانون كانت قوات الشرطة تراقب مظاهرات الإخوان من دون أن تتدخل، إلى أن يبدأ المتظاهرون فى استخدام العنف فتبدأ فى فض المظاهرة، ولكنها - منذ صدور القانون - أصبحت تتصدى لهذه المظاهرات لفضها بمجرد تحركها، انطلاقاً من أن الذين ينظمونها لم يخطروا قسم الشرطة المختص بأنهم سيقومون بها، ولم ينفذوا نصوصه المتعلقة بشروط الإخطار.
والغريب أن أحداً من هؤلاء المعترضين لم يتقدم بإخطار رسمى للقيام بمظاهرة ورفضت الشرطة منحه له، وهو ما يعطيه الحق فى اللجوء إلى القضاء، وبذلك نعرف هل يصادر القانون حق التظاهر، أم الذين يعارضون أو يطالبون بإلغائه يلعبون لحساب الإخوان المسلمين، الذين سيكون أول ما يفعلونه إذا عادوا إلى الحكم، هو أن يشنقوهم على باب المحكمة الدستورية العليا.