عادت إلى الصحافة المصرية ظاهرة كنا نظن أنها انتهت مع سقوط نظام مبارك ومعه جهاز أمن الدولة الذى تغّول واستفحل فى المجتمع قبل ثورة 25 يناير. وهذه الظاهرة هى اتهام المعارضين والنخبة السياسية من دون سند ولا أدلة عبر موضوعات صحفية.
كنا نقرأ اتهامات للإخوان المسلمين صباح كل سبت فى جريدة الأهرام بأنهم وراء جرائم جنائية أو سياسية . وكانت هذه الموضوعات تعتمد فى مجملها على مذكرة تحريات مباحث أمن الدولة وتتجاهل أى أدلة يمكن الاستناد إليها كما تتجاهل رأى المتهمين أو محاميهم فى حال ما إذا كانوا محبوسين احتياطيا على ذمة قضية ما. وكان لنا زميل يطل علينا كل سبت على صفحات الأهرام بموضوع يحتل ثلثى صفحة يوزع فيه التهم يمينا ويسارا. وحسب علمنا فإن قيادات الجريدة كانوا لا يستطيعون التدخل مهنيا فى هذه الموضوعات لأنه كان يقول لهم «همه عاوزينه كده» و«همه» هم قيادات أمن الدولة المنحل.
وبالطبع لا نستطيع أن نطبق المعايير المهنية على هذه الموضوعات لأنها جاءت من فوق، وكان رئيس التحرير يدرك أن امتناعه عن نشر هذه الأكاذيب والاتهامات يمكن أن يعجل برحليه عن منصبه بل بعضهم كان يذهب إلى برامج «التوك شو» ليدافع عن هذه الأكاذيب وهو يعرف أنها فبركات من الجهاز المنحل، بل كان يدرك أن تدخله لتحسين الموضوعات وإضفاء طابع مهنى عليها هو أمر غير مطلوب يمكن أن يعجل برحليه أيضا، وكان السادة «أصدقاء» جهاز أمن الدولة من الصحفيين مراكز قوى فى صحفهم، وأحيانا يلعبون دورا فى تعيين رئيس تحرير والإطاحة بآخر.
وإذا كانت مصر عانت من التجريف السياسى فإن ذلك يعود فى جزء كبير منه إلى عملية تشويه النخبة السياسية التى تمت خلال حكم حسنى مبارك، وكان الفاعل الرئيسى فيها هو مثل هذه الموضوعات غير المهنية المفبركة. ويمكن لأى دارس للإعلام والصحافة، وعلى الأخص التحرير الصحفى، أن يعد رسالة جامعية حول هذه الموضوعات. فعبر هذه الموضوعات فقدت الناس الثقة بالأحزاب والنشطاء السياسيين، وأصبح العمل السياسى مخاطرة غير مأمونة العواقب، وهو ما أدى إلى ابتعاد الناس عن السياسة، وهى جريمة تعانى مصر منها الآن لأنها أخلت الساحة لجماعات الإسلام السياسى، التى لم تفلت هى الأخرى من نفس السياسة الصحفية القميئة.
وكنا نتصور أن هذه السياسة قد اختفت إلى غير رجعة، وأننا فى عملية بناء سياسى وحزبى على أسس جديدة ومحترمة، ولكننا للأسف كنا مخطئين، حيث عادت الاتهامات غير المستندة إلى أدلة وفى تغييب تام لرأى المتهمين أو دفاعهم عن أنفسهم، إلى مانشيتات الصحف. فالسبت الماضى خرجت علينا جريدة كبرى تتهم زعماء تيارات سياسية بأنهم وراء أحداث ماسبيرو، وذلك وفقا لما كشفته التحقيقات الأولى، حسبما تقول الصحيفة.
وكان الأولى بالصحيفة ونحن فى هذا الظرف الحساس ألا تستبق الأحداث وتنتظر انتهاء التحقيقات، وبعد تحديد جهات التحقيق للمتهمين بصورة نهائية ووفق قرار اتهام رسمى. إن هذا الأسلوب الذى يذكرنا بأسلوب عفا عليه الزمن يمكن أن يثير حساسية ويجعل الناس تفقد الثقة فى كل زعماء «التيارات السياسية» من دون تحديد لأن المصطلح نفسه فضفاض فلا نعرف إن كانت تيارات حزبية أم غير حزبية، وهل ستكون هناك اتهامات لهم أم أن ما ذكر فى التحقيقات كان مجرد أقاويل غير مستندة إلى أدلة. وكان المانشيت يتسم بالتضخيم حيث، إن صح كان عنوانه على 8 أعمدة بعرض الصفحة الأولى، ولكن المادة المتعلقة بالعنوان نفسه لا تتجاوز 9 أسطر، تحاول أن تثبت أن هناك مخططاً للوقيعة بين الجيش والشعب، وأن أحداث ماسبيرو لم تكن وليدة اللحظة.
وبالطبع لا نستطيع أن ننفى أو نؤكد هذا الطرح ولكن حساسية الموقف كانت تتطلب من جريدة «محافظة» إما، تنشر حقائق كاملة أو أن تنتظر انتهاء التحقيقات لتنشرها بعد ذلك، لأن هذا الأسلوب العتيق يمكن أن تكون له آثار سلبية على المجتمع والسياسة فى هذا الظرف الدقيق الذى تمر به مصر، فضلا عن أنه يتجاهل قواعد مهنية راسخة.
المشكلة فى هذا الأمر أن السكوت عنه وتفويته سوف يعيدنا مرة أخرى إلى مرحلة نريد أن نتجاوزها، وكنا نتصور أن الثورة أسقطتها مثلما أسقطت الكثير من القواعد التى كان النظام السابق يعتمد عليها فى تدجين المجتمع والاستمرار فى حكمه، كما أن تجاهلها سيغرى الجهة التى سربت هذا الهراء بتسريب غيره لنفس الصحيفة أو لصحيفة أخرى، وأعتقد أن الصحيفة التى نشرت هذه الاتهامات عليها أن تنشر ما لديها كاملا أو أن تعتذر لقرائها على هذه السقطة المهنية.