يأتى الاحتفال بذكرى النصر فى أكتوبر 1973 فى سياق مختلف تماما هذا العام. فهذه هى المرة الأولى التى يحتفل فيها شعب مصر بتلك المناسبة الغالية فى غياب رئيسين سعى، كل منهما بطريقته الخاصة، لسرقة ما تحقق فيها من إنجاز وأصر على نسبة الفضل فيه لنفسه وحده. ويبدو أن السماء كان لها رأى آخر. فالرئيس الذى اتخذ بنفسه قرار الحرب اغتيل على يد أفراد ينتمون إلى القوات المسلحة أثناء عرض عسكرى أقيم احتفالا بذكرى النصر، والرئيس الاخر الذى شارك فى هذه الحرب مقاتلا، حين كان قائدا لسلاح الطيران، يمثل الآن أمام القضاء ليحاكم على تهم يكاد بعضها يرقى إلى الخيانة العظمى. وبينما كان يحلو للرئيس السادات أن يطلق على نفسه لقب «بطل الحرب والسلام»، كان يحلو للرئيس مبارك أن يطلق على نفسه «صاحب الضربة الجوية الأولى»، وكلاهما تنكر بإصرار وعناد لأبطال عظام لعبوا أدوارا بالغة الأهمية لصنع هذا النصر الكبير.
من الأهمية بمكان، ونحن نحتفل بذكرى نصر أكتوبر للمرة الأولى بعد ثورة يناير، أن نتوقف متأملين ما جرى لمصر وفيها وباحثين عن بداية خيط رفيع متين يربط بين ملحمتين صنعتهما معا عبقرية الشعب المصرى العظيم. ولأنه بات على قناعة تامة بأن ثمار الإنجاز الذى حققه نصر أكتوبر سرق منه، وبأن محاولات ضارية تبذل الآن للالتفاف على ثورة يناير، ولسرقة ثمار ما تحقق من إنجازاتها حتى الآن ومنعها من تحقيق انتصارها الكامل والنهائى، يفترض أن يكون الشعب المصرى اليوم أكثر حذرا مما كان عليه بالأمس، وأنضج وعيا بما يحاك له، وأشد تصميما وحرصا على حماية ثورته السلمية التى لم تكتمل بعد، وعلى ألا تلقى نفس المصير الذى لقيته ملحمة أكتوبر العسكرية من قبل. كما يفترض أن يكون الشعب أكثر إصرارا هذه المرة على مواجهة قوى الداخل والخارج التى تبذل كل ما فى وسعها للحيلولة دون انطلاق بلاده على طريق التقدم والازدهار.
بوسع كل متأمل لما جرى فى مصر على مدى العقود الأربعة الماضية أن يلحظ، وبوضوح تام، أوجه شبه كثيرة بين ملحمتى أكتوبر ويناير، ربما كان أهمها: 1- أن شعب مصر هو صانعهما الحقيقى وهو الأولى والأحق بجنى ثمارهما كاملة. 2- أن القوى التى سرقت منه ثمار النصر الذى تحقق فى الملحمة الأولى هى نفسها التى تحاول الآن سرقة ثمار الإنجاز الذى حققته الملحمة الثانية حتى الآن، ومنع الثورة من الوصول إلى محطتها الأخيرة وتحقيق أهدافها النهائية كاملة. 3- أن احتكار السلطة وغياب الشفافية والرقابة كانا من بين أهم الأسباب التى مهدت للاستيلاء على ثمار النصر الذى تحقق فى أكتوبر 73، وتمهد الآن للمحاولات الرامية لاحتواء ثورة يناير تمهيدا لإجهاضها .
كان شعب مصر قد عاش حلما جميلا فى الستينيات حين تصور أنه سيصحو ذات يوم فيجد نفسه وقد تحققت كل أهدافه فى الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية التى كان إعلامه الرسمى يتغنى بها صباح مساء، ثم إذا به يصحو فجأة فى 5 يونيو 67 على وقع كابوس هزيمة قاسية ضربته بعنف على غير توقع أو انتظار. ورغم إدراكه العميق بأن النظام الذى أرست ثورة يوليو دعائمه كان المسؤول الأول عن هذه الهزيمة النكراء، إلا أن رفض الاستسلام للهزيمة والإصرار على الثأر لكرامته وتحرير أرضه دفع شعب مصر للخروج يومى 9 و10 يونيو عام 67 مطالبا عبدالناصر بالبقاء فى موقعه خشية أن تتحول الهزيمة العسكرية فى معركة إلى هزيمة سياسية فى الحرب ضد إسرائيل. وربما بدا هذا موقفا غريبا من حيث الشكل لكنه كان عبقريا من حيث المضمون، لأن الشعب ميز فيه بين عبدالناصر، الزعيم غير المشكوك فى وطنيته، وعبدالناصر الحاكم المعرض لارتكاب أخطاء قد تصل إلى حد الخطيئة. ومع ذلك لم يمنح الشعب عبدالناصر شيكا على بياض فى ذلك الوقت، وإنما منحه تفويضا مشروطا لإعداد الدولة للحرب والأخذ بكل أسباب النصر، ولم يتردد فى الخروج إلى الشارع متظاهرا ومحتجا على سياساته حين اقتضى الأمر.
هذا الموقف الشعبى المركب إلى حد التعقيد، الذى فاجأ عبدالناصر نفسه قبل أن يفاجئ معظم المراقبين، منح قائدا مهزوما كل ما احتاجه من دعم للارتقاء بأدائه فى تلك الفترة إلى مستوى التحدى الذى صمم الشعب على مواجهته. ويكفى أن نتذكر معركة رأس العش، وإغراق المدمرة إيلات، وحرب الاستنزاف الطويلة التى أبلت فيها القوات الخاصة المصرية بلاء حسنا، والمناورات الدبلوماسية التى نجحت فى بناء دشم لصواريخ الدفاع الجوى على الضفة الغربية للقناة، لندرك مدى الجدية التى اتسمت بها إدارة المعركة حينئذ. وليس بمقدور أحد أن يتكهن بالطريقة التى كان يمكن لعبدالناصر أن يدير بها معركة العبور لو قدر له أن يخوضها، فقد أرادت الأقدار شيئا آخر حين اختارت عبدالناصر إلى جوارها فى 28 سبتمبر 1970 وعهدت بالمسؤولية إلى نائبه.
لا جدال فى أن الرئيس السادات لعب دوراً مهماً فى حرب أكتوبر لكنه يتحمل المسؤولية الرئيسية فى الوقت نفسه عن جانب مما جرى فيها وعن كل ما جرى بعدها. فإليه يعود الفضل الأول فى تحمل مسؤولية اتخاذ قرار الحرب، كما لعب دورا مهما فى إنجاح خطة الخداع الاستراتيجى، لكنه يعد فى الوقت نفسه مسؤولا مسؤولية كاملة عن النتائج المترتبة على: 1- تدخله فى إدارة المعارك العسكرية فى لحظات معينة، خاصة قراره بتطوير الهجوم الذى كان مدفوعا باعتبارات سياسية وتسبب فى إحداث ثغرة الدفرسوار. 2- رفضه سحب جزء من القوات المتمركزة شرق القناة لمحاصرة القوات الإسرائيلية فى الثغرة. 3- طريقته فى الإدارة السياسية للمعركة بعد قبول وقف إطلاق النار، التى بدأت بإبرام اتفاقيتى فصل بين القوات عامى 74 و75 وانتهت بزيارة القدس عام 77 وبالتوقيع على اتفاقيتى كامب ديفيد عام 1978 ثم إبرام معاهدة سلام منفصل مع إسرائيل عام 1979.
لا يتسع المقام هنا للدخول فى تفصيلات جدل ما زال محتدما حول معظم هذه القضايا، رغم مرور ما يقرب من أربعة عقود على بعضها. غير أنه يتعين مع ذلك أن نأخذ فى اعتبارنا مجموعة من الملاحظات، فى مقدمتها: 1- عدم تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق فيما جرى على الجبهة المصرية إبان حرب أكتوبر ولاستجلاء حقيقة الخلاف الذى وقع بين السادات والشاذلى. 2- عدم الإفراج عن الوثائق المصرية المتعلقة بطريقة إدارة حرب أكتوبر. 3- رفض السادات التشاور مع أقرب معاونيه قبل زيارته للقدس، مما أدى إلى استقالة اسماعيل فهمى، وزير الخارجية، ومحمد رياض، وزير الدولة للشؤون الخارجية، وعدم الإنصات إلى مستشاريه أثناء التفاوض على معاهدة السلام مع إسرائيل، مما أدى إلى استقالة صديقه ووزير خارجيته الجديد محمد إبراهيم كامل. 5- لم تستغرق مناقشة معاهدة السلام مع إسرائيل فى مجلس الشعب أكثر من جلستين تم بعدها حل مجلس الشعب بهدف إخراج النواب الذين عارضوا المعاهدة وعددهم 15 نائبا. 6- كان إبرام هذه المعاهدة من بين أهم أسباب اندلاع أزمة سبتمبر 1981 وقيام السادات باعتقال وسجن كل رموز الحركة الوطنية المصرية، وهى الأزمة التى مهدت لحادث المنصة واغتيال الرئيس السادات نفسه.
رغم تمكن الشعب المصرى من تجاوز نكسة 67، بتحقيق نصر عسكرى كبير فى فى أكتوبر 73، إلا أن غياب الديمقراطية أدى فى النهاية إلى نكسة مزدوجة تمثلت فى: 1- تعيين مبارك نائبا لرئيس الجمهورية، 2- إدارة سياسية غير رشيدة لنتائج المواجهة العسكرية مع إسرائيل، لتبدأ مصر بعدها طريق الانحدار الطويل إلى أن كادت تتحول إلى دولة فاشلة بعد 30 سنة من حكم مبارك وأسرته. فخلال هذه الفترة الطويلة جرت: 1- عملية نهب منهجى غير مسبوقة فى تاريخ مصر حالت دون تمكينها من الانطلاق والنهضة الاقتصادية، رغم تدفق المعونات عليها من كل حدب وصوب وتوافر ظروف محلية وإقليمية وعالمية كان يمكن أن تساعد على انطلاقة اقتصادية جادة. 2- ظهور مشروع لتوريث السلطة بالدم، بنقلها من الرئيس الأب إلى الرئيس الابن، مما هدد بتقويض دعائم النظام الجمهورى نفسه. ولا جدال فى أن هذين العاملين مهدا لاندلاع ثورة 25 يناير.
إذا كان هناك من دروس يتعين استيعابها مما جرى فى مصر طوال الحقب الأربعة الماضية فيمكن تلخيصها على النحو التالى: 1- لدى الشعب المصرى، بعبقريته الفذة، قدرة هائلة على تجاوز أعتى التحديات وعلى صنع ما يشبه المعجزات حتى فى أحلك اللحظات. وقد فعلها مرتين: مرة حين تمكن من إلحاق هزيمة نكراء بالجيش الإسرائيلى وتدمير خط بارليف الحصين فى أكتوبر 73، ومرة ثانية حين أسقط نظام مبارك ومعه مشروع التوريث فى يناير 2011. 2- لن يكون بإمكان الشعب المصرى أن يحافظ على أى من المنجزات التى قد تصنعها تلك المعجزات إلا إذا نجح فى إقامة نظام ديمقراطى حقيقى. وهذا هو التحدى الحقيقى الذى يواجه شعب مصر فى تلك اللحظة.
ولأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يدير المرحلة الانتقالية بطريقة غير مؤسسية ويجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فلا تزال فرص بناء نظام ديمقراطى حقيقى فى مصر ضعيفة وربما تكون معدومة. ولا أبالغ إن قلت إن مصر معرضة لنكسة أكبر من هزيمة 67 وأخطر من مشروع التوريث إذا لم تنجح ثورة يناير فى بناء نظام ديمقراطى قوى. وهذا هو أهم الدروس المستفادة مما جرى خلال العقود الأربعة الأخيرة.