فى الأسطورة اليونانية عاقبت الآلهة «باندورا» بأن أعطتها صندوق الشرور الشهير، مع توصية بألا تفتحه. وبدافع الفضول البشرى القاتل تفتح «باندورا» الصندوق فتنطلق الشرور لتملأ أرجاء العالم. وعندما تُسارع «باندورا» لإغلاق الصندوق، تكون الشرور كلها قد أفلتت بالفعل، بينما تبقت فضيلةٌ واحدة فى قعر الصندوق: الأمل!
متى فُتح «صندوق الشرور» فى المشرق العربى؟ البعض يرجع إلى الربيع العربى الذى استحال موسماً للجنون. البعض يعود إلى نقطة أبعد: غزو أمريكا للعراق فى 2003.
قبل التفكير فى النقطة التى فُتح عندها الصنوق، أو منْ فتحه، لابد أن نسأل أنفسنا عن الصندوق ذاته، وعن محتوياته القاتلة: من أين جاءت كل هذه الشرور بداخله؟ كيف تكونت وترعرعت وتكاثرت كالفيروسات الفتاكة؟ من أى طبقات الجحيم خرجت علينا لتحاصرنا برؤوس مقطوعة، وأجساد مصلوبة، وملايين يعيشون فى قبضة الخوف؟
هناك إجابات مُختلفة بمستويات متباينة من التعقيد. أطرحُ هنا إجابة بسيطة. صندوق الشرور العربى يتجسد فى نظامين جنونيين خزنا بداخلهما آثاماً بلا حصر. تسببا فى عذابات وويلات تفوق الخيال. ظلت الشرورُ كامنةً بداخلهما حتى فُتح الصندوق. عن النظامين الصدامى والأسدى أتحدث.
هذان النظامان يشتركان فى أشياء كثيرة: كلاهما حكمُ أقلية طائفية اختبأ وراء غطاء كاذب من الشعارات القومية. كلاهما تورط فى قتل أبناء شعبه بعشرات الآلاف فى مذابح معروفة وموثقة. كلاهما عبث فى الإقليم، وراودته أحلام الزعامة والنفوذ. كلاهما طالما أضمر حقداً دفيناً على مصر ودورها. كلاهما أقام جمهورية خوف عمادها الرُعب وعبادة الزعيم الأوحد.
النظام الصدامى تسبب بحماقته وجنونه فى جلب القوات الأمريكية للمنطقة مرتين خلال ثلاثة عشر عاماً. النظام السورى تحالف منذ الثمانينيات مع أخطر أعداء العالم العربى: نظام الملالى. الأسدية والصدامية وجهان لعُملة واحدة: كلاهما تسبب فى انكشاف العالم العربى، وإضعاف النظام الإقليمى.
عندما انفجر هذان النظامان، خرجت الشرور الكامنة فى التركيبة السياسية والاجتماعية لكل منهما. انكشف الغطاء عن نزاعات طائفية ومذهبية. خرجت إلى العلن رواسب الأحقاد والعداوات والعذابات المُتراكمة لعقود. النظم أفرزت مُعارضةً على شاكلتها: طائفية فى تركيبتها ودموية فى ممارستها.
ليس من قبيل الصدفة أن داعش كانت حصيلة الإنتاج المُشترك لهذين النظامين(!). هى وُلدت فى العراق، واشتد عودها فى سوريا. ما تفعله داعش ليس جديداً. الإعدامات بالجُملة والقتل على الهوية والمذابح الجماعية تُعد أشياء عادية فى التاريخ المعاصر لسوريا والعراق. الجديد أن داعش تلتقط الصور لجرائمها وتسبغ عليها مسحة دينية (مذابح حماة والأنفال لا تقل ـ بأى حال ـ إجراماً عما ترتكبه داعش، ولكننا لم نر أفلاماً لها على اليوتيوب).
النظام الأسدى أسهم فى خلق داعش. لا يمكن أن يكون طرفاً فى الحرب ضدها. لا ينبغى أن تؤدى هذه الحرب إلى تقويته أو إعطائه فرصة أخرى للبقاء. النظام الأسدى تحول من حليف لإيران، فى عهد الأسد الأب، إلى عميل لطهران فى زمن الأسد الابن. إنه نظامٌ عميل، ببساطة ووضوح. وكأى نظام عميل لم يتورع الأسد عن إدخال قوات أجنبية من الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله لتساعده فى قتل أبناء شعبه.
خطأ كبير أن يعتقد البعض أن الأسد حليفٌ فى معركة ضد الجهاديين. واقع الحال أنه حليف لجهاديين من نوع آخر: جهادى الشيعة من الحرس الثورى الإيرانى. خطأ كبيرٌ أن يعتبر البعض جيش الأسد حصناً فى مواجهة داعش. واقع الحال أنه لا جيش للأسد بل ميليشيا علوية/ شيعية. واقع الحال أن الجيش السورى انتهى، ومعه الدولة السورية كما عرفناها خلال القرن المنصرم.
دنيس روس كان على حق عندما أشار فى مقاله الأخير بالنيويورك تايمز إلى أن المنطقة اليوم تنقسم إلى فريقين واضحين: الإسلاميين ومناوئيهم. معسكر الإسلاميين لا يضم فقط الجماعات السُنية الجهادية، ولكنه يشمل أيضاً الميليشيات الشيعية ومركزها فى طهران وجناحها النظام الأسدى المُحاصر فى دمشق.
الحرب على داعش لن تكون قصيرة، هى مجرد معركة فى حرب أوسع على «من جلب داعش»، ومن جعل وجودها ممُكنا من الأصل. مهادنة النظام الأسدى (وداعميه) خطيئة كُبرى. هذا النظام بتركيبته الطائفية البغيضة وعمالته للملالى، لا يُمكن أن يكون طرفاً فى بناء إقليمى جديد. هو نظام ينتمى للماضى. ينبغى حصاره حتى يذوى. خنقه حتى يموت.
لقد فُتح صندوق الشرور العربى. ليس أمامنا سوى التحلى بالشجاعة والاستمساك بالأمل المختبئ فى قاعه!