هالة مصطفى
التعريف الكلاسيكى للدستور هو أنه «أبوالقوانين»، فهو العهد أو الميثاق الذى يرشد أى تجربة سياسية ويعبر عنها فى الوقت نفسه، قد يكون غير مكتوب مثلما هو الحال فى التجربة الإنجليزية، وهو أمر لا يتوافر إلا فى مجتمع وصل إلى درجة من النضج السياسى والتوافق الاجتماعى والتراضى الوطنى واستقرار التجربة السياسية، مما يؤهله لأن تكون أعرافه التى استقر عليها هى دستوره الذى يحترمه الجميع. وفى الغالب تكون الدساتير مكتوبة وتمثل العقد الذى يحدد العلاقة بين الحكام والمحكومين وأيضاً بين فئات وطبقات المجتمع المختلفة بكل أطيافها الفكرية والسياسية.
ولذلك، فهو يختلف من حقبة تاريخية إلى أخرى، عندما تحدث قطيعة فى التجربة السياسية، كأن تنتقل دولة ما من حال احتلال، على سبيل المثال، إلى الاستقلال، أو أن تقوم ثورات تنهى عهدا قديما، وتبدأ عهدا جديدا. حدث ذلك تاريخيا مع إعلان المجنا كارتا فى بريطانيا الذى أسس للحقوق المدنية فى القرن الـ13، والثورة الفرنسية التى كانت أهدافها ومبادئها الإنسانية الكبرى فى «الحرية والإخاء والمساواة» هى دستورها الجديد، الذى تجاوز حدودها الجغرافية ليصيغ ويشكل الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وكذلك إعلان الاستقلال الأمريكى الذى رسخ لمبادئ الحريات المدنية العامة والفردية فى الوثيقة الأولى للدستور الذى لم يتعد المواد الأساسية السبع، والذى صاغ التجربة الأمريكية برمتها فى الديمقراطية والليبرالية إلى الآن.
وفى مصر، أنتجت ثورة 1919 دستور مصر الليبرالى الأول فى 1923، ومن خلاله أرست تجربتها الديمقراطية الليبرالية التعددية الرائدة فى الحقبة الأولى من تاريخها الحديث، والذى استمر حتى ثورة 1952، والتى بدورها عطلت الدستور وأصدرت وثيقة أولية تعبر عن توجهاتها الجديدة المختلفة جذريا مع تلك الحقبة الأولى، ثم دستور مؤقت فى 1954 حتى صدور الدستور الدائم فى 1971، بعدما تغيرت بعض التوجهات السياسية فى عصر الرئيس الراحل أنور السادات. وهو الدستور الذى استمر العمل به حتى الآن، بعد أن أجريت عليه تعديلات مختلفة فى الحقبة نفسها، أى 1980 و1981، وحتى التعديلات الأخيرة فى 2007.
ولأن جميع تلك التعديلات قد تمت بشكل جزئى، ووفق ما ينطلق منه النظام السياسى الحاكم فى كل فترة من فترات تطوره، فقد أصبح الدستور الحالى مليئاً بالمتناقضات، ولا يلبى طموحات نظام سياسى جديد يقوم على مبادئ الديمقراطية والتعددية الحزبية وكفالة الحريات الليبرالية، والاحتكام إلى سيادة القانون، والفصل بين السلطات، واحترام استقلال القضاء وغيرها.
وهذا هو الفارق الحقيقى بين المدخلين السياسى والقانونى فى النظر إلى الدستور. فالمدخل الأول يقوم على وجود رؤية سياسية متكاملة تؤصل لعهد جديد. أما الأخير أى المدخل القانونى، فهو ينظر فقط فى مواد الدستور ومدى اتساقها مع بعضها دون أن يحمل بالضرورة رؤية سياسية شاملة.
إن الدستور الحالى، وهو امتداد لدستور قديم وضع فى بداية السبعينيات، قام فى الأساس على الترسيخ لنظام سياسى سلطوى ولتجربة اشتراكية سادت فى الخمسينيات والستينيات، لم ترتبط فقط بالاقتصاد المركزى، وإنما أيضاً بمبدأ التنظيم السياسى الواحد، والإعلام الموجه القائم على التعبئة وخدمة النظام فى المقام الأول، وليس التنوع أو الحرية فى تمثيل كل الآراء والاتجاهات الفكرية والسياسية، كما ارتبط بذلك التزاوج بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، وطغت الأولى على ما عداها، وعلى الرغم من الانفتاح السياسى النسبى والتجربة التعددية المقيدة التى دعا إليها الرئيس الراحل أنور السادات، والتى أجرى بموجبها بعض التعديلات الدستورية فى أوائل الثمانينيات، فهذه فى الواقع لم تؤصل لنظام سياسى مغاير للنظام القائم وقتئذ،
وهكذا فالتعديل الأهم الذى أجراه عام 1980 اقتصر على إدخال المادة الثانية الشهيرة التى تنص على أن «الشريعة الإسلامية هى مصدر رئيسى للتشريع»، والواقع أنه أجرى هذا التعديل ليس استجابة لمطالب شعبية، وإنما جاء كجزء من صراعه مع القوى اليسارية والناصرية التى هيمنت على المشهد السياسى فى الخمسينيات والستينيات، واستمرت بأشكال مختلفة خلال عهد السادات، فكان ذلك جزءاً من البحث عن شرعية سياسية من مصادرها التقليدية، وفى مقدمتها الدين عوضاً عن الشرعية العقلانية الحديثة التى تقوم على الأداء السياسى والحرية وحكم القانون.
ثم جاء تعديله الثانى الأبرز بعد ذلك بعام واحد، أى فى 1981 ليعيد صياغة المادة نفسها، وإن كانت بصورة أقوى لتقول إن «الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع»، والواقع أن هذا التعديل جاء مرة أخرى ليس استجابة لمطالب مرفوعة وإنما ليعطى تبريراً وشرعية لتعديل آخر أكثر خطورة تزامن معه، وهو الخاص بالمادة 77، التى كانت تنص على فترتين محددتين لرئاسة الجمهورية كل منهما 6 سنوات ليجعلها مفتوحة أى «يجوز انتخاب رئيس الجمهورية لمدد أخرى» بما يعنى جعلها مدى الحياة.
وسعت التعديلات الأخيرة فى 2007 لإدخال بعض التعديلات الشكلية، مثل إضافة مادة «المواطنة» وإزالة لفظ الاشتراكية من العديد من المواد الأخرى، للإيحاء بوجود توجه ليبرالى فى الاقتصاد، اتضح بعد ذلك أنه لم يكن ليبرالياً، بقدر ما كان يغطى على فساد جماعات مصالح جديدة لا علاقة لها بالنظم الرأسمالية الليبرالية المتقدمة الملتزمة بآليات الشفافية والمحاسبية والرقابة وسيادة القانون، وبالقطع بنظام ديمقراطى لا يعرف الاحتكار السياسى والإعلامى.
كما ظل الدستور الحالى بعد تلك التعديلات يؤصل لنفس سمات النظام السلطوى بتوجهه الاشتراكى الزائف، إذ تم الإبقاء على المادة الموروثة من الحقبة القديمة، والمتعلقة بضرورة أن تكون المجالس التمثيلية بنسبة 50٪ من العمال والفلاحين، ليس دفاعاً عن تلك الطبقات، وإنما، كما وضح من الممارسة على مدى عقود طويلة، لضمان التعبئة والحشد للنظام وتحويل المؤسسات التشريعية والمحلية إلى مجالس شكلية، وتعطيل وظائفها فى الرقابة والمحاسبة،
كذلك، بقيت المواد الخاصة باختصاصات رئيس الجمهورية على حالها من التضخم المرتبط بالسلطوية، فضلاً عن المواد المقيدة لحرية الإعلام والصحافة، ووضعها تحت الإشراف المباشر للمجلس الأعلى للصحافة، بما يضمن ولاءها للنظام، وليس لمبدأ حرية التعبير، أما المادة الثانية من الدستور، والمتعلقة بالشريعة الإسلامية، فقد بقيت على حالها، ليس إخلاصاً لمرجعية ثقافية أراد النظام أن يحافظ عليها، بقدر ما استمرت كأداة لتوظيفها سياسياً كمصدر للشرعية التقليدية.
إذن، يتطلب العهد الجديد بلا شك دستوراً جديداً، فالتعديلات ستظل جزئية محدودة، ربما تساعد فى مرحلة انتقالية، ولكنها لن تصلح أساسا لإقامة تجربة سياسية جديدة.