أكثر ما يثير الدهشة في واقعة طرد عبدالرحيم علي من قناة «القاهرة والناس» على خلفية إذاعة تسجيلات هاتفية لرجل الأعمال نجيب ساويرس كان تصريح طارق نور مالك القناة تعليقا على الواقعة.
نور قال في تصريح لصحيفة الوطن عقب قطع الإرسال عن المذيع : «عبدالرحيم عمل ضد سياسة القناة، ولو عنده موضوع شخصي يتكفل بيه لوحده مش على شاشة القاهرة والناس، إحنا ضد الكلام ده وضد بهدلة الناس على الهوا».
أقوال نور تبدو جميلة ورائعة .. وتكشف لمن يقرأها أن الرجل حادا كالسيف في الأمور التي تتعلق بسياسة قناته .. ولكن، لحظة من فضلك .. ما هي سياسة قناة «القاهرة والناس» أساسا التي خالفها عبدالرحيم علي؟
المدهش أن توابع الأزمة استمرت للأسبوع الثاني على التوالي بمغادرة عبدالرحيم للبلاد وتوارد أنباء عن مقاضاته لطارق نور .. كل ذلك دون أن طرح السؤال الأكثر منطقية «هي إيه سياسة القناة أصلا؟».
والمثير للاهتمام أن مع كل أزمة بين مقدم برامج والقناة التي يعمل بها، نقرأ تصريحا أو بيانا ركيكا يتشدق بالمهنية والسياسة التحريرية والقيم العليا (وشوية كلام كبير) من جانب القناة عن مخالفة سياسة تحريرية مزعومة لا نعرفها وتظهر دوما عند الخلاف، حدث هذا من قبل مثلا مع باسم يوسف و(سي.بي.سي) .
والسبب في ذلك هو أن ملاك وإدارات الفضائيات الخاصة لديهم اعتقاد خاطئ- بحسن أو سوء نية- أن ما اتفقوا عليه شفهيا أوكتابيا عند توقيع العقد مع مقدم البرنامج إنه «سياسة».
والأصل بحسب ما تعلمنا من الدراسة والتدريب في مدارس الإعلام والصحافة في العالم أجمع أن السياسة التحريرية هي بمثابة عقد مكتوب وله وجود مادي بين وسائل الإعلام وجمهورها.
تلتزم القناة بموجب العقد بقواعد أخلاقية ومهنية وحقوق للمشاهد أو القارئ من بينها على سبيل المثال: الدقة والموضوعية في تناول الأخبار بشفافية وحرمة الحياة الخاصة ونبذ العنصرية والتحريض على العنف وإذاعة أخبار دون مصدر إلخ. .. يمكنكم الاطلاع على سياسة بي بي سي مثلا من هنا وسياسة «سكاي نيوز» من هنا وصحيفة «ذا جارديان»من هنا .
إعلان السياسة التحريرية لأي مؤسسة إعلامية يفرض على العاملين فيها الالتزام بقواعدها أمام أنفسهم قبل جماهيرهم وليس الالتزام بسياسة «تعليمات صاحب المحل»، وهو أمر محسوم خارج مصر من عشرات السنين بهدف الشفافية، لدرجة أن هناك اتجاها في بعض المؤسسات الدولية الآن لإنشاء ما يسمى بمشروعات «صالة التحرير المفتوحة».. والمقصود هنا أن قراراتها وتمويلها كله معروف للجمهور.
فمثلا مؤسسة بروبابليكا الأمريكية المتخصصة في الصحافة الاستقصائية والمعتمدة على التبرعات تنشر طريقة تمويل عملها وتقاريرها المالية السنوية وحتى بيانها السنوي للضرائب، وتتيح للقراء اقتراح موضوعات التحقيقات الاستقصائية وتطلب مساعدتهم في فحص المستندات من خلال شبكة قراء يساعدون الصحيفة.
ولا يقتصر الأمر على ذلك في مجال الشفافية بل يمتد إلى الكشف عن طبيعة المحتوى ففي عام 2010 قررت صحيفة «ريجستر سيتزن» الأمريكية المحلية نقل صالة تحريرها لمكان فسيح صممته على هيئة مقهى ليسمح بحضور القراء للاجتماعات التحريرية اليومية التي تم تسجيلها وبثها في نهاية كل يوم على الإنترنت ليفهم الناس لماذا اختارت الصحافة المانشيت والعناوين الرئيسية؟.
كما أتاحت في العام ذاته صحيفتا «ذا جارديان» البريطانية و«أوبن فايل» فرصة تقديم القراء لموضوعات يمكن للصحيفة العمل عليها وتقديمها.
بالطبع هذه المشروعات لا يتم اتخاذها إلا بعد دراسة تأثيرها على الإعلانات وقدرة وسيلة الإعلام على السبق الصحفي، كما أن انتشار نماذج كهذه في الغرب لا يعني أن الإعلام لديهم يعيش في جنة والأمثلة كثيرة على الانحياز، خصوصا في قضايا الشرق الأوسط.
ولكن على الجمهور المصري أن يعرف أن مؤسساتنا الإعلامية بعيدة تماما عن هذا الفكر الحديث، بل وتحرص يوميا على إبراز النماذج السلبية في الإعلام الغربي لتبرير كوارث نتعرض لها يوميا مثل التحيز والتحريض وتراجع الدقة في نقل الأخبار والتسجيلات المسربة، وكأن المفروض أن نقبل رقادنا في قاع «مستنقع إعلامي» دون أدنى أمل في التطور.
أخيرا.. أضحك دوما كلما سمعت بعض ملاك الفضائيات يتحدثون عن «السياسة التحريرية» فحديثهم يذكرني بتفسير «السياسة» عند الراحل نجاح الموجي في مسرحية «المتزوجون» ورد القدير جورج سيدهم.
ناقشوني على تويتر @nasry
روابط مفيدة لمن يرغب في مزيد من الإطلاع على سياسات تحريرية:
- هيئة الإذاعة الأسترالية (إيه.بي.سي)
- روابط للقواعد الأخلاقية لعمل 56 مؤسسة صحفية في الولايات المتحدة