إلى «جمعة الشوان»

عمار علي حسن الثلاثاء 04-01-2011 08:00

لا تبك يا أبى...

اختزن دموعك فى مقلتيك، ثم افتح عينيك وأطلق شرر غضبك على من نسوك وراحوا يحتسون نشوة النصر الزائفة فوق بدنك الذى أنهكه انتظار ما لا يأتى، ارفع رأسك التى أخذت هامتنا يوما إلى العلا، فأنت البطل وهم المسوخ، لا تهن ولا تحزن فلن يتركك من أحبوك وآمنوا بما فعلت نهبا لعراء السنين، ولن يدعوك تركع أمام من غفلوا عنك وانتبهوا فقط لكراسيهم التى ينخر فيها السوس، وكروشهم التى تورمت من شفط أقواتنا، وآمالهم التى علقوها على من ذهبت أنت لتسقط أسطورتهم الزائفة، وتغرس فى عيونهم الوقحة رايتنا الخفاقة.

لا تبك يا أبى ...

فحزنك يضنينا، وهمك يحط على أكتافنا جبالا من نار، وعتابك يطوق أعناقنا بعار مقيم، وهمساتك تشعل فى رؤوسنا أسئلة توخز العقول والقلوب معا... منذ متى وأنت تتوجع صابرا أبيا؟ كيف تركناك تواجه الأيام القاسية وحيدا وأنت مجرد من كل سيوفك التى أشهرتها فى وجه من ظنوا أن ظهورنا قد انكسرت إلى الأبد؟ هل ارتج قلبك ذات ليلة فرنا الموت على الجدران المتآكلة؟ هل صرخت فمات صوتك على أعتاب بيتك الصغير؟ هل شردت مبحرا فى أيام مجدك وصفعت الألم فهرب مذعورا؟ كم مرة فاضت عيناك فغامت الرؤية وخاب الرجاء؟ كم مرة ارتسمت على شفتيك ابتسامة ساخرة وأنت ترى الأباطرة الجدد يرقصون على حبال أوردتك المجهدة؟ كم مرة دفنت رأسك فى وسادتك الخشنة وأردت أن تنسى كل شىء؟ كم مرة أردت أن تلقى أحلامك من نافذة الأيام وتتهكم على كل شىء؟ لا بد أنك قهقهت حتى كدت أن تسقط من فرط الوجع وأنت ترى من قام بتمثيل دورك ذات يوم فى مسلسل تليفزيونى يلقبونه بالزعيم، لابد أنك تعجبت من سلطة تقف على كل أقدامها لتنتظر فريق كرة قدم فى المطار ولا تهتز لها شعرة ولا يرمش لها جفن لعذاب الذين صنعوا الفجر واستعادوا الكرامة الجريحة.

لا تبك يا أبى...

لو أنك سمعت حديث من قرأوا خبر مرضك وكلام عتابك، لو أنك قرأت التعليقات التى صاحبت نشره، لو أنك جمعت فى كفيك بعض الدموع التى تساقطت حزنا على تجاهلك، لو جنيت فى حجرك بعض الغضب العارم ضد من ظلموك، ما بكيت أبدا، ولخلعت نظارتك السوداء وصرخت من أعماقك: «من جد وجد ومن زرع حصد»، وربما جريت إلى أقرب مكتبة من بيتك لتستعير كل كتب التاريخ وتقرأ وتقرأ لتكتشف أن مصر باقية بشعبها العظيم وروحها البسيطة الفياضة، وليس بسلاطينها المتجبرين، ولا بأمرائها المتكبرين، ولا بأثريائها الذين لا يمشون على الأرض هونا.

لا تبك يا أبى...

لن تهون على أحد يا هوان، فمصر كلها جاءتك حين ناديتها، أتتك عدوا سخية رخية، تلملم بعض دمك المسفوح، وبعض دموعك السابحة على مفارق الأيام، وتأخذ أصابعك العشرة التى خمشت بها وجه العدو لتزرع وردا وقمحا، وترسم حروفا ونجوما، وتقول لك بملء فمها: يا من وضعت رقبتك على كفك، هاتها الآن لتستريح على أكف من أخذت ألبابهم، وخطفت أبصارهم، وهززت قلوبهم فى زمان المحنة، فتمثلوك وأكبروك وبجلوك وقالوا معك وعيونهم تفيض بالأمل: مصر تستحق وأرواحنا لها فداء.

لا تبك يا أبى...

ولا تنتظر على باب أحد، فمثلك أنت وكل الذين عبروا إلى النصر تسير الأبواب إليهم، وتفرش تحت أقدامهم أكبادنا، وتهرول إليهم صفحات التاريخ خاضعة خانعة، فلا تقف على باب من أداروا لنا ظهورهم وراحوا يركلون آمالنا بأقدامهم الغليظة الثقيلة، ويصنعون من جماجمنا كؤوسا يشربون فيها نخب أوهامهم التى ستذروها الريح عما قريب، لتبقى مجرد ذرات ضائعة من غبار تدوسها أقدامنا الزاحفة إلى الخلاص، الساعية إلى اقتطاف زهرة الفجر الندية.

لا تبك يا أبى...

ارفع هامتك، واسترق السمع مرة ثانية، واجمع كل الأخبار القديمة من على ألسنة الأعداء ومن رؤوسهم التى تعشش فيها الكراهية، ثم انثر كل ما جمعت فى وجوه الذين تركوك فى منتصف الرحلة، لعل خبرا منها يوخز ضمائرهم الغافلة النائمة فاستيقظ ولو ساعة من نهار، لعل يدا ترتعش خجلا ووجلا ثم تمتد على استحياء إلى وجهك لتكفكف بعض دموعك.

ابك يا أبى...

أو اصرخ، أو اخلع نعليك وهم على وجهك فى الطرقات ليسمع الناس لعناتك وتلسعهم حرقتك، لكن لا تدعنا نعتقد ولو وهما أن لحظة ندم واحدة قد عبرت رأسك وخطفتك إلى الغياب أو المجهول وأنت تواجه قسوة من يعصرون أكبادنا كل يوم، فلست جاحدا ولسنا أنذالا، ومثلك لا يبيع ولو على عنقه كل سيوف الدنيا، لكن دموعك التى تساقطت فى لحظة انكسار فأخجلتنا هاهى تصبح من جديد درا على جبين الوطن، وقلائد تزين أعناق كل المصريين الشرفاء الذى يحبونك، ويصرخون حتى تسمعهم الدنيا كلها: لن تهون علينا أبدا يا هوان.