جسد ممدد لامرأة أمام مستشفى في كالكتا بالهند، الموت أوقف نبضات قلبها بسبب فقر مدقع تسبب في «أكل الفئران والحشرات نصف جسدها»، عام 1946، فكان نقطة تحول في حياة راهبة اسمها أجنس جونكسا بواكسيو أو المعروفة أمام العالم باسم الأم تريزا، التي تحل الذكرى الـ104 لميلادها في 26 أغسطس.
الأم تريزا تأثرت بالمشهد، الذي تحكي عنه في سيرتها الذاتية، قائلة: «كان على مغادرة الدير ومساعدة الفقراء خلال معيشتي وسطهم، كان أمرًا، وعدم تنفيذ ذلك هو عدم احترام الإيمان».
بالفعل كرست حياتها لخدمة الفقراء، لكن عامها الأول شهد صعوبات لعدم توافر المال الكافي لديها، الأمر، الذي دفعها إلى الاستجداء من أجل الطعام والإمدادات، بعدما كانت جالسة «معززة مكرمة» داخل دير أيرلندي.
واختارت الأم تريزا اسمها تيمنًا بقديسة حملت نفس اللقب، وكانت مشهورة برعاية المبشرين، حيث انبهرت في أوائل سنوات عمرها بقصص هؤلاء القديسين.
عام 1910، ولدت الأم تريزا لأبوين ألبان في سكوبي، وهي اليوم عاصمة جمهورية مقدونيا، وبعد مرور 8 سنوات فقدت أبيها لتتربى في كنف أمها تربية كاثوليكية، وفقًا لما جاء في سيرة حياتها، التي كتبها جوان كراف كلوكاس.
وثار الجدل حول جنسيتها، حيث شهدت منطقة البلقان خلافًا بين ألبانيا ومقدونيا حول أصول الأم تريزا، فترى مقدونيا أنها تنتمي إليها بحكم مولدها في عاصمتها سكوبي.
وكان البلدان بعد مرور 10 سنوات من القرن العشرين لا يزالان جزءًا من الدولة العثمانية، فترى ألبانيا أن تريزا تنتمي لها، بحكم أن والديها من أصول ألبانية، فيما تشير هيئة الإذاعة البريطانية إلى أن الجانب المقدوني رأى أن هناك شكوكًا تحيط بعرقية والدها، وإن كون مسقط رأسها في سكوبي يجعل منها مقدونية.
«بالدم أنا ألبانية، وبالجنسية أنا هندية، وبالعقيدة أنا راهبة كاثوليكية، وأنا أنتمي لهذا العالم».. هكذا علقت الأم تريزا، بعيدًا عن الخلاف، الذي أدى إلى تجميد الخطط المقدونية بالتبرع لروما بتمثال لها، فكانت الشابة ذات الـ18 عامًا، مستجيبة لدعوة أمها بتخصيص حياتها للدين، تاركة منزل أسرتها في سكوبي وانضمت إلى دير لوريتو وهو تجمع أيرلندي للراهبات، وأصبحت راهبة، 24 مايو 1931.
وأصبحت تقدم خدماتها للفقراء في الهند لمدة 5 عقود من الزمن، لكنها تعرضت لما رأته «إغراءً» للعودة إلى حياة الدير المريحة، مسجلة في دفتر يومياتها، وفقًا لما نقلته صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية: «الرب يريد مني أن أصبح راهبة حرة، واليوم تعلمت درسًا جيدًا، أن فقر الفقراء صعب عليهم جدَا، وخلال البحث عن مسكن سرت أشعر بالألم في ساقي وكتفي، وفكرت في مدى شعورهم بالألم في أجسادهم وأرواحهم بحثا عن مسكن، وغذاء وصحة».
واصلت الأم تريزا طريقها في خدمة الفقراء، لتصل لها نجدة من السماء ممثلة في معونة قدمتها مجموعة من المتبرعات، لتؤسس جمعية «راهبات المحبة»، عام 1950، التي اهتمت بالأطفال المشردين والعجزة، وبعد 7 سنوات، اهتمت بالعناية بـ«المجذومين»، مؤسسة جمعية لهم حملت اسم «أخوة المحبة»، عام 1963.
ولم تقتصر جهود الأم تريزا على خدمة فقراء الهند، فذهبت إلى الحبشة لمساعدة المنكوبين هناك، وأغاثتهم من الجوع والتشرد، وقوبل عملها بانتقادات منها أن فريقها لم تكن له دراية واسعة بالطب.
وعندما تلقت الأم تريزا جائزة نوبل للسلام، عام 1979، وقفت لتحدد مهمة الرهبنة بأنها «العناية بالجائعين والعراة والمشردين والعاجزين والعميان والمنبوذين، وكل هؤلاء البشر، الذين يشعرون بأنهم غير مرغوب فيهم أو محرومين من العناية والمحبة، أولئك الذين يعتبرهم أفراد المجتمع عبئا عليهم فيتجنبونهم».
وطالبت وقتها بإلغاء حفل العشاء، الذي يقام لتكريم الفائزين بجائزة نوبل، والتبرع بتكاليفه لجياع بمدينة كالكتا الهندية، التي تعيش في فقر مدقع، بعدما سجلت في دفتر أعمالها الخيرية إسهامات عدة منها افتتاح دار للأيتام والشباب المشردين، فضلًا عن زيارتها إلى بيروت، وقت الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قائلة إنه لم يحدث أن شهدت حربًا من قبل، لكنها شهدت «مجاعة وموتًا»، وأضافت: «سألت نفسي: بماذا يشعرون عندما يفعلون ذلك؟ لا أفهم.. لماذا يفعلون ذلك؟ لا أفهم».
وكان لها بصمة أخرى، إبان حرب الخليج في بداية التسعينيات من القرن العشرين، حيث خاطبت الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش (الأب)، والرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، عام 1991، كاتبة: «أرجو منكما أن تختارا طريق السلام.. بعد وقت قصير سيكون هناك رابحون وخاسرون بعد هذه الحرب، التي نمقتها جميعا، ولا شئ يمكن أن يبرر المعاناة والآلام وإزهاق الأرواح، التي ستسببها أسلحتكم».
ورغم مسيرتها الدينية الزاهدة إلا أن تقارير صحفية استعرضت كتابًا جديدًا ظهر، عام 2007، مستعرضًا ما سماه «مرحلة الإلحاد»، التي مرت بها نصف حياتها تقريبًا.
والكتاب بعنوان COME BE MY LIGHT، وهو عبارة عن مجموعة من 40 خطابًا كتبتها الأم تريزا إلى مرشديها الروحيين وثقاتها عبر السنوات، تكشف خلالها أنها ظلت نصف حياتها تقريبا تمر بمرحلة عذاب روحي كان من الممكن أن تدفع معظم الأشخاص العاديين للتخلي عن قناعاتهم الدينية.
وتكشف الرسائل أن الأم تريزا ظلت لمدة 40 سنة من عمرها، الذي بلغ 87 سنة، لا تشعر بوجود الرب، وكانت حياتها الروحية جافة ومظلمة، وشعرت بالوحدة والانفصال عن الرب.
ودفع الأمر بعض وسائل الإعلام الغربية إلى مناقشة الحياة الدينية للأم تريزا، وأثارت تساؤلات عن اقتراح الفاتيكان بمنح مرتبة القديسة لها، حيث حصلت عليها على مرتبة «التطويب»، عام 2003، بعد أن اعترف المسؤولون في الفاتيكان بأنها مسؤولة عن معجزة شفيت فيها امرأة هندية من سرطان الأمعاء، بعد وضع ميدالية باركتها الأم تريزا على معدتها.
ويوم وفاتها، 5 سبتمبر 1997، قررت الكنيسة الكاثوليكية اختياره يومًا خاصًا، للتذكرة بأعمالها الخيرية، التي كرستها لخدمة الفقراء.