أقطع حديثى عن تقرير «هيومان رايتس ووتش» بهذه الفجيعة التى أصابت الشعر العربى برحيل الشاعر الفلسطينى الكبير سميح القاسم، الذى صارع المرض طوال السنتين الماضيتين، وكنا نقلق عليه كلما اشتد عليه المرض، لكننا مع ذلك فُجعنا لرحيله، وكأننا لم نكن نعلم أن أيامه «معدودة»، كما قال لى فى آخر محادثة تليفونية بيننا، بعد أيام من الحرب الحالية على غزة.
مازلت أسمع صوته الواهى الحزين وهو يقول: ليست هذه أول حرب تشنها قوات الاحتلال على السكان العزل فى غزة، ولن تكون الأخيرة، لكنها بالتأكيد من أشرس ما تعرض له سكان القطاع حتى الآن، وروى لى أشياء يشيب لها الولدان، وسألته عن صحته، فقال ضاحكاً: يسألونك عن الصحة، قل الصحة من علم ربى وما أوتيت من العلم إلا قليلاً.
وقد جمعتنى بسميح صداقة ممتدة عبر السنين، ونزل ضيفاً علينا فى اتحاد كتاب مصر أكثر من مرة، كان من بينها يوم فاز بجائزة نجيب محفوظ التى يمنحها الاتحاد سنوياً لكاتب عربى، حيث قال يومها: أنا أوفر حظاً من نجيب محفوظ، فجائزتى تحمل اسم رجل من أنبل من عرفتهم فى حياتى، وهو عبقرى الرواية العربية الذى ساهم فى تشكيل وجدان جيل كامل من القراء، أما محفوظ فجائزته تحمل اسم ألفريد نوبل الذى تسبب فى الدمار والهلاك باختراعه الديناميت.
وقد وصل سميح القاسم إلى أعلى المراتب التى يمكن أن يصلها أى فنان، وهى أن يصبح رمزاً لوطنه كالعلم أو النشيد الوطنى أو المعلم التاريخى، فمثلما يرمز لبريطانيا بشكسبير أو بنهر التايمز، أو يرمز لفرنسا ببرج إيفل أو نشيد «المارسييز»، فسيظل يرمز لفلسطين بسميح القاسم ومحمود درويش وقبة الصخرة وبيارات البرتقال بيافا.
لقد نجح سميح القاسم فى أن يوحد بين البصمة الشعرية التى تركها على الشعر العربى وبين صوت القضية الذى تحول من خلال شعره وشعر رفيق دربه محمود درويش إلى صيحة ألم وثورة عابرة للحدود الجغرافية ومتخطية الأجيال الإنسانية، وهو ممن رفضوا مغادرة فلسطين، رغم الإرهاب الصهيونى الذى تعرض له السكان العرب، وتحمل الاضطهاد الناتج عن العيش تحت الاحتلال الاستيطانى الذى لا يعترف بحقوق المواطنين الذين اغتصبت أراضيهم وصُودرت ممتلكاتهم، لكنه ظل شوكة فى حلق الاحتلال حتى فرض صوته على العالم، فتُرجمت أشعاره إلى لغات العالم بما فى ذلك اللغة العبرية، ومن خلاله تعاطف الناس مع معاناة الشعب الفلسطينى، وقد فرضت أشعار سميح القاسم ومحمود درويش نفسها على المحتل نفسه، فدخل بعضها لأول مرة ضمن المقررات الدراسية فى المدارس الإسرائيلية.
رحم الله سميح القاسم، صوت القضية الفلسطينية، وجزاه خيراً بقدر ما خدم قضية وطنه ورفع من شأن الشعر العربى المعاصر.