مجموعة من الخيام البالية لم تتغير منذ إبريل 2011 حين اشتدت رحى الثورة الليبية فى طرابلس، وجوه أفريقية تجلس على الطريق ربما يمر من يتعرف قصصهم ويتكرم عليهم ببعض الطعام والشراب. على بعد 600 متر من معبر رأس جدير وفى الجانب التونسى، حيث يمر طريق أسفلتى يقود إلى البوابة يسكن مواطنو 17 دولة فى هذا المخيم، بعد أن فروا من حرب ليبيا عام 2011، عابرين منفذ رأس جدير إلى هنا. الجميع يرفض العودة إلى بلادهم التى تملؤها الحروب الأهلية أو الاضطرابات الأمنية أو البطالة القاتلة.
أحد سكان المخيم، يدعى قدرى ساليفو، 36 عاما، شاب غانى، لا يتحدث العربية، فر من حرب القبائل عام 2002 إلى ليبيا، تاركا خلفه طفلا عمره شهران وزوجة، علم بعد ذلك أنها تزوجت غيره بعد غيابه. يقول قدرى: «لا أستطيع العودة إلى غانا، فكلما مات ملك للقبيلة اشتعلت الحروب بين القبائل وبعضها على الزعامة، أريد الحياة فى أى دولة غير ليبيا أو تونس. أريد دولة توفر لى حقوقا وحماية».
عندما سئل قدرى عن مصدر طعامه، أشار إلى الأسفلت المقابل للمخيم، وقال: «من هذا الطريق. الليبيون العابرون بين تونس وليبيا يعلمون حاجتنا للطعام والشراب». يشير قدرى إلى تلك البقع السوداء فى ذراعيه وقدميه، ويقول: «أنا مصاب بمرض جلدى، ولا أحد يوفر لنا العناية الصحية، فقط الجيش التونسى يعطينا أدوية بسيطة، بلا فحص طبى. وقد كان أحد رفاقنا مصابا بنفس المرض، ثم تضخمت قدماه، ومات، أخشى أن أتضخم، وأظل هنا حتى الموت».
محمود مصطفى، 54 سنة، ميكانيكى، من السودان، كان يعمل فى ليبيا منذ عام 2003، وهرب وقت الثورة، ورفض العودة إلى السودان بسبب المشاكل التى تنتظره هناك. يقول محمود: «كانت مفوضية اللاجئين فى البداية تحضر لنا أطعمة، ولكنها توقفت عن التدخل منذ عامين، ونعيش على صدقة الطريق».
بينما يقف صلاح الدين أحمد شريف، 27 سنة، عامل، من إثيوبيا، زائغ النظرات، لا يجيب بشىء مفهوم. يقول رفيقه محمود مصطفى: «أصيب صلاح الدين بأزمة نفسية، بعد فترة من الجوع والمرض، بعد قطع المعونة عن المخيم، ورفض السلطات التونسية دخول والده التاجر الإثيوبى إلى البلاد، ومايزال والد صلاح الدين يهاتفه ويبكى ولا يعلم الحالة التى وصل إليها ابنه الذى كان طالبا فى ليبيا، ويجيد 4 لغات».
شكرى جريتلا، 44 سنة، مواطن تونسى، صاحب المقهى الوحيد على النقطة الحدودية ومخيم كامب شوشة: «جئت رغبة فى الرزق من المغتربين الجدد الذين تصرف عليهم المفوضية، بالإضافة إلى العابرين الليبيين، بقيت هنا فى المقهى، وأحاول مساعدة اللاجئين هنا بالتعريف بحالتهم فى مدينة بن جردان القريبة، وبعض الأهالى يتبرعون بملابس وأطعمة»، ويضيف: «حكاية الشاب الإثيوبى صلاح الدين مؤثرة للغاية، لأنه جاء إلى المخيم فى حال، وشاهدنا جميعا تبدل حالته حتى وصلت إلى القاع». المواطن المصرى الوحيد فى الكامب هو على الجوهرى، 66 سنة، من المحلة الكبرى، يجلس على كرسى بلاستيكى بسيط داخل المقهى، لا يستطيع الوقوف على قدميه، بعد رحلة بحث عن الرزق تنوعت بين العراق وليبيا. رحلة تمتد لأكثر من 20 عاما.
يقول على: «بداية محنتى عندما سافرت العراق لأعمل جزارا عام 1989 ومكثت بها حتى عام 1999، وكنت أتابع مشكلة تحويلاتى من مصر. ظللت أبحث عن أموالى وتحويلاتى حتى عام 2002، وعندما فقدت الأمل ذهبت إلى ليبيا. فى إبريل 2011 لما قامت الثورة، قبض علىَّ جنود القذافى من منزلى الساعة 9 صباحا. وأخدوا كل فلوسى وكل شىء كان فى المنزل، ومنها بدأت رحلة التعذيب فى 4 سجون، ولما كنت أسأل العساكر همه ليه بيضربونى كانوا يقولو: لأنك مصرى جبت لنا الثورة!».
آثار التعذيب لاتزال واضحة على جسد الجوهرى الذى يرفض العودة إلى مصر، ويضيف: «أعانى شرخا فى أحد الأضلاع، إلى جانب أمراض الضغط، بس مش هارجع مصر حتى تأخذ محكمة العدل الدولية حقى»، ويتابع بتصميم: «فى رمضان الماضى جاء أحد موظفى السفارة المصرية إلى نقطة الجيش المسؤولة عنا حتى يرتب رحيلى، دون أن يسأل ماذا جاء بى إلى هنا، وبعد أن رفضت العودة انقطعت الأخبار.. لا مساعدات بالطعام أو غيره، رغم أنهم جميعا فى السفارة يعلمون بوجودى هنا».
عن سر رفضه العودة إلى مصر يقول الجوهرى: «البلد دى ما بتعرفش تجيب حق حد. لا مسيحيين ولا مسلمين ولا السفرا اللى اتخطفوا فى ليبيا، أنا ضاع حقى فى العراق وليبيا. خلاص انتهت.. أنا هنا حتى الحصول على حقى أو الموت، لكن أروح مصر أعمل إيه؟! وأعيش فين؟! ومين يأكلنى أو يعالجنى؟! أنا هنا مصيرى هاخد حقى، لكن فى مصر حتى لو رجع عبدالناصر مش هاخد حقى!».