قبل أيام قليلة بدأ المَسيحيون الاحتفال بصَوم السيدة العذراء. وللسيدة العذراء فى مِصر كرامة وإجلال كبيران من المِصريِّين إذ ذُكرت فى التوراة والإنجيل والقرآن بعديد من الصفات التى حار فيها المفكرون.
فى التوراة:
كتب سليمان الحكيم عنها فى سفر الأمثال: «... بَنَاتٌ كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلًا، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا».. وتنبأ عنها إشَعَياء النبى أنها تلد ابنًا: «... يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ (عِمَّانُوئِيلَ)». ووصفها حَزْقِيال النبيّ بالباب المغْلَق: «فَقَالَ لِيَ الرَّبُّ: (هٰذَا الْبَابُ يَكُونُ مُغْلَقًا، لاَ يُفْتَحُ وَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلٰهَ إِسْرَائِيلَ دَخَلَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُغْلَقًا)...»، وهو يعنى استمرار بَتولية السيدة العذراء بعد أن ولدت ابنها السيد المسيح. وذُكر عنها فى سفر إشَعَياء: «... هُوَ ذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا». فما هٰذه السحابة إلا السيدة العذراء التى كانت تحمل ابنها هاربة به من وجه من يريد قتله. وقال عنها داود النبى فى مزاميره إنها الملكة: «جُعِلَتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ...».
كذٰلك حملت التوراة عديدًا من الرُّموز التى أشارت إلى «السيدة العذراء»، فعلى سبيل المثال: يُرمز إليها بعصا هارون التى أفرخت كمثال السيدة العذراء التى أنجبت طفلها دون زرع بشر.
ويذكر التاريخ قصة تعلقت بأحد شيوخ بنى إسرائيل يُدعى «سمعان» كان أحد السبعين شيخًا العلماء الذين قاموا بترجمة التوراة من العبرانية إلى اليونانية فى أيام «بطليموس» الملك عام 269 ق. م. تقريبًا. وكان «بطليموس» قد أرسل إلى أورشليم واستحضر سبعين رجلًا من أحبار اليهود وعلمائهم، وأمرهم بأن يترجموا له التوراة من العبرانية إلى اليونانية. ومن ذكائه وبلوغًا إلى دقة الترجمة، قام بعزل كل اثنين منهم فى مكان منفرد لضمان الوصول إلى نسخة مترجمة صحيحة. وبينما «سمعان الشيخ» يقوم بالترجمة، وصل إلى قول إشعياء النبى: «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا»، وهنا خشِيَ «سمعان» أن يكتُب تعبير «عذراء تحبل» فيتعرض للإهانة والاستهزاء من الملك. فظل يفكر طويلًا إلى أن هَداه تفكيره إلى كتابة كلمة «فتاة» عِوضًا عن كلمة «العذراء». ولٰكن أُعلن له فى رؤيا أنه لن يرى الموت قبل أن يرى الطفل الذى يولد من هذه العذراء. وقد تحقق ذلك بالفعل إذ عاش هذا الشيخ قرابة الثلاثمائة سنة إلى أن وُلد السيد المسيح، ففى أحد الأيام، ذهب إلى الهيكل بإرشاد من الله وكان آنذاك قد كُف بصره. فلما حمل الصبى على ذراعيه أبصر فى الحال، وأعلمه الله أن هذا هو المولود الذى كان ينتظره، وحينئذ: «بَارَكَ اللهَ وَقَالَ: (الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَىَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِى أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ)».
فى الإنجيل:
يأتى ذكر السيدة العذراء فى قصة البشارة التى ذكرها لوقا الطبيب: عندما أُرسِل إليها «جَبرائيل» الملاك وهى فى مدينة الناصرة ليُعلِن رسالته لها ويبشرها بحبلها بالسيد المسيح وولادته. بدأ الملاك حديثه إليها بتقديم التحية والسلام معلنًا أنها مباركة من بين النساء: «... مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِى النِّسَاءِ». إلا أنها اضطربت من تحية الملاك لها فأسرع بقوله: «لاَ تَخَافِى يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ». ثم ذكر القديس لوقا أن العذراء اتجهت بعد ذلك مباشرة إلى نسيبتها «أليصابات» الحُبلى بابن فى شيخوختها لتخدُِمها: «فَقَامَتْ مَرْيَمُ فِى تِلْكَ الأَيَّامِ وَذَهَبَتْ بِسُرْعَةٍ إِلَى الْجِبَالِ إِلَى مَدِينَةِ يَهُوذَا، وَدَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا وَسَلَّمَتْ عَلَى أَلِيصَابَاتَ... فَمَكَثَتْ مَرْيَمُ عِنْدَهَا نَحْوَ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا».
وحين تمت أيام السيدة العذراء لتلد، لم تجد لها مكانًا فى بيت لحم سوى مذود تضع فيه الصبىّ! وبعد وِلادته تعرضت حياة الطفل إلى خطر الموت حتى ظهر ملاك الله فى حُلم لـ«يوسُِف النجار» بعد زيارة المجوس، وحذّره من الملك هِيرودُس الذى يسعى لقتل الطفل كما ذكر متى الرسول: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ». فأسرع «يوسُِف النجار» وأخذ الصبى وأمه «مريم» وهربوا إلى أرض مِصر، ولم يتوانَوا مع أن الوقت كان ليلًا. وتذكُر بعض المصادر التاريخية أن العائلة المقدسة قضَّت قرابة الثلاث سنوات ونصف السنة فى مِصر. وبموت هيرودُس الملك، يظهر الملاك مرة ثانية ويأمر «يوسُِف النجار» بالعودة مع الصبيّ وأمه «مريم» ليرجعا ويعيشا فى مدينة الناصرة. وقد ذكر يوحنا الحبيب أنه اعتنى بها حتى نياحتها: «فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أُمَّهُ، وَالتِّلْمِيذَ الَّذِى كَانَ يُحِبُّهُ وَاقِفًا، قَالَ لأُمِّهِ: (يَا امْرَأَةُ، هُوَ ذَا ابْنُكِ)».
فى القرآن:
يُجِلّ القرآن السيدة العذراء «مريم» إجلالًا كبيرًا إذ قيل عنها فى سورة آل عمران: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾. وقد ذُكر عن طهارتها وعدم قدرة الشيطان أن يمَسها ما جاء فى صحيح «مسلم»: «كُلُّ بَنِى آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ إِلّا مَرْيَمَ وَابْنَها». والسيدة العذراء هى الوحيدة التى حبِلت وولدت وهى عذراء!!! وتلك معجزة من الله، ففى سورة التحريم: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾، كما هى الوحيدة التى سُميت باسمها سورة فى القرآن وهى «سورة مريم»، وذكرها الله باسمها فى القرآن، وهى سيدة نساء العالمين.
وكانت «حِنة» والدة السيدة العذراء امرأة عاقراً، وكانت تتمنى أن يكون لها نسل. فطلبت إلى الله أن يَرزُقها طفلًا تَنذُره له، ففى سورة آل عمران: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. وقد استجاب الله لها ورزقها ابنةً سُميت «مريم» قُدِّمت لخدمة الله من طفولتها، وهٰكذا عاشت الطفلة «مريم» فى بيت الله. ثم صارت يتيمة فى صغرها. وطوال مدة طفولتها كانت حياتها تمتلئ بالصلوات والأصوام فى الهيكل، ففى سورة آل عمران: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الِله إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. ثم غادرت الهيكل وبُشرت من الملاك بوِلادة السيد المسيح. ويذكر القرآن فى سورة مريم أن الملاك «جبريل» ظهر لها وهى تصلى وتعبد الله ليبشرها بولادتها للمسيح: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾، ففزِعت عندما رأته، فطمأنها أنه مرسَل من الله من أجل تبشيرها: ﴿قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾.
ونجد فى الإنجيل أن «مريم العذراء» تساءلت: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟». فأجابها الملاك: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ...». وخضعت مريم لمشيئة الله قائلة: «هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِى كَقَوْلِكَ».
إن الله- جل جلاله- لا يترك من يلجأ إليه، ويظهر هذا جليًّا فى حياة السيدة العذراء «مريم» التى اصطفاها من بين نساء العالمين. وقد ذكر القرآن فى سورة مريم أن الله أنطق وليدها بأن تنظر تحتها فتجد عين ماء جارية: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلّا تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾، وأن تنظر إلى أعلى فتجد فى النخل رُطَبًا: ﴿وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾.
ومن هنا نجد أن عظمة «السيدة العذراء مريم» وطهارتها وقداستها التى أنجبت طفلها من دون رجل فى معجزة لم تتكرر، ولن تتكرر فى التاريخ البشريّ إلى الأبد.
وفى هذه الأيام المباركة، نطلب إلى الله كل الخير والسلام لبلادنا مِصر، وللعراق، وسوريا، و(غزة) فلسطين، والعالم العربى، وكل العالم ببركة السيدة العذراء التى شرَّفت بلادنا وباركتها. حفِظ الله مِصر وصانها من كل شر. و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
الأسقف العام، رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى