رغبت منذ التحاقي بمؤسسة بي بي سي في تكريم الفنان سعيد صالح. قدم سعيد في مسرحية «مدرسة المشاغبين» مشهدا خالدا قال فيه: «هنا البي بي سي أن أن أااان.. مرسي ابن المعلم الزناتي اتهزم يا رجاله.. بالإنجليزي». كان المشهد هدية لا تُقدر بثمن، وأسهم في أن يكون اسم بي بي سي على كل لسان، إلا ويذكر لسنوات طويلة في العالم العربي، إلا وتصحبه ابتسامة منبعها حب الناس للمشهد ومبدعه.
شخصيًا، استخدمت تسجيلًا لهذا الجزء في عدد من المحاضرات والندوات. ولم يخيب سعيد صالح ظني في قدرته على انتزاع قهقهات الحاضرين في أي موقف لجأت فيه إلى مرسي ابن المعلم الزناتي، ليخفف من جفاف المادة المعلوماتية التي كنت أقدمها.
جاءتني الفرصة في عام 2008 عندما احتفلت بي بي سي العربية بيوبيلها الماسي، وأقامت احتفالا في القاهرة في ذكرى مرور 75 عاما على إنشائها وأيضا للحديث عن مشروع تليفزيون بي بي سي العربي الذي كنا على وشك إطلاقه. دعوت إلى الحفل، باسم المؤسسة، عددا كبيرا من الكتاب والفنانين والشخصيات العامة ممن تعاونوا مع بي بي سي كضيوف أو مشاركين في برامجها. أردت أن يكون سعيد صالح مفاجأة الحفل وجزءا لا يتجزأ منه. وكان حلمي أن يعيد على مسامعنا هذا المقطع الصغير من مدرسة المشاغبين، ربما بعد إدخال بعض التعديلات التي تعكس مرور الزمن. استشرت عددا من الكتاب والفنانين في فكرة حضوره، وأدهشني أنهم لم يرحبوا بالفكرة على الإطلاق. بعضهم قالها على استحياء وبعضهم قالها صراحة.
لم يكن وجود سعيد صالح في رأيهم يناسب حفلًا تقيمه بي بي سي. كان الفنان قد مر بتجارب قاسية عديدة في حياته. في عام 83 خرج مرة عن النص في إحدى مسرحياته وقال: «أمي إتجوزت 3 مرات. الأول أكّلنا المشّ، والتانى علّمنا الغشّ، والتالت لا بيهشّ ولا بينشّ»، في إشارة إلى ثلاثة من روساء مصر، آخرهم رئيس مصر وقتها حسني مبارك. لم يعاقب سعيد على «طول لسانه» مباشرة وانتظرت السلطات حتى خرج عن النص مرة أخرى في سياق غير سياسي تماما، فصدر ضده حكم بالسجن ستة أشهر. بعدها بسنوات وفي منتصف التسعينيات حكم عليه مجددا بالسجن عاما كاملا بعد أن ضبط في منزله متلبسا بشرب الحشيش (الذي يتعاطاه الكثيرون من مختلف طبقات المجتمع المصري علنًا على بعض المقاهي).
لا أشك في أن رواية سعيد صالح عن اضطهاده وملاحقته بسبب «طول لسانه» صحيحة. وأعتقد أنه كان محقا عندما قال إن نصف فناني مصر سيدخلون السجون لو كانت الدولة جادة في عقاب متعاطي الحشيش.
السجن و«طول اللسان» جعلاه في نظر أقرانه من مرتبة لا تناسب مقام الحاضرين في حفل بي بي سي، ناهيك عن أن يشارك في تقديمه. سعيد صالح، السجين السابق، لم يكن «كلاسي» بما فيه الكفاية ليفسح له زملاؤه مكانا إلى جانبهم في حفل كنت أنا راعيه.
أزعجتني «طبقية» الفكرة. وتذكرت ساعتها أن سعيد صالح لم يكن له حظ الصعود المطّرد على سلم النجومية وشباك التذاكر بالقدر الذي حظي به شركاء مسيرته الفنية، وعلى رأسهم عادل إمام الذي كان وقتها سفير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
تغاضيت عن نصائح الأصدقاء، واتصلت بسعيد صالح لأطلب منه الحضور. دار بيننا حوار قصير على الهاتف أحسست منه أن صوتي لم ينجح في الوصول إلى قلبه. أحسست أنه صنفني بحكم لقبي وموقعى، وأنه لم يكن مرتاحا لفكرة الحضور في حفل ربما ظن أنه سيكون «رسميًا» وغير مريح.
لا أزال أذكر انطباعي عن المكالمة وإحساسي بأنه قد أصبح شكاكًا ومتحسبًا وقلقًا. تعلل بالإجهاد ثم وافق، وطلب أن يحضره سائق من مسكنه. وافقت على الفور وطلبت من أبوأحمد، سائق المكتب الذي كان يلازمني وقتها، أن يذهب قبل الحفل لإحضاره. ذهب أبوأحمد بالفعل ولكنه لم يعد بسعيد الذي اختلق سببا واهيا ليتجنب الحضور، فمضى الحفل دون أن تتحقق أمنيتي.
لا أدعي أنني عرفته أو عرفت من عرفه عن قرب، لكنني أشعر أنه كان عزيز النفس إلى درجة كبيرة. لم أسمع أنه لام أيا ممن شاركوه رحلته على تخليهم عنه، بل ولم يسهم مطلقا فيما تردد حول إسهام بعضهم بشكل فاعل في انحسار الأضواء عن موهبته.
عاش حياته كما يريد دون أن يحاول تجاوز محنته بالشللية أو المداهنة محتفظا بعزة نفسه حتى النهاية. وراح دون أن يسمح لي حتى بأن أشكره نيابة عن بي بي سي على ما قدمه لها ولمستمعيها.
رحمة الله عليك يا سعيد صالح، أو سلطان السكري، الذي لا يمت لي بصلة قرابة!
لم أعد في تلك المؤسسة التي أعتقد أنك قدمت لها خدمة جليلة، ولكنني مازلت أرغب في أن أشكرك على ما أسعدتني به من فنك، وعلى عما عرفته من صفاء نفسك وبعدك عن الرياء والمداهنة.
لسبب ما، أشعر أنك تعرف الآن، كم أحبك البسطاء الذين أحببتهم.
hosam@sokkari.net Twitter: @sokkari
*مذيع ومستشار إعلامي والرئيس السابق لبي بي سي العربية