منذ فجر التاريخ، ومصر دائمًا نقطة مضيئة أمام العالم.. هنا تبدأ الأحداث والمقدمات، ومنها ننطلق إلى النتائج. وبعد 72 عامًا من الاحتلال البريطاني، وتغير وجوه المقاومة في الشارع المصري سياسيا وشعبيا، كان ليوم 23 يوليو عام 1952 تأثيره السحري على نظرة العالم الخارجي نحو مصر الجديدة الصاعدة بقوة من خلال أبناء شربوا من ماء النيل واستنشقوا هواء القاهرة شمالا وجنوبا. مصر التي قرر أن يبنيها جيل أصيل من أرضها يستمد من سلالة محمد على القدرة على الفعل والإنجاز والتمرد على العدو المستعمر، ويستكمل المسيرة.
ومع ظهور مبادئ ثورة يوليو الخالدة أجمع خبراء سياسيون عرب ومصريون، على أن «هذه الثورة نجحت بقيادة الضباط الأحرار ثم زعامة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في تغيير وجه الحياة على امتداد العالم الثالث بأسره، بدعمها لجميع حركات التحرر في العالم العربي وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، سياسيا وماديا وعسكريا، ليتحول «عبدالناصر» إلى رمز عالمي يعبر عن حرية الشعوب وهزيمة الاحتلال.
وترسخت هذه الحقيقة بأن مصر القوية قادمة في عهد «ناصر»، وهنا بدأ الغرب يدرس دوره الجديد المتلون حسب معطيات المشهد وتطوراته، واستعد لمعركة أخرى لتقويض حلم أولاد النيل الذي لا يموت. وكان لا بد أن يصطدم الطموح المصري بحسابات ومطامع القوى الكبرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي رأت في «مصر عبدالناصر»، حاجزا منيعا أمام مخططاتها لإحلال نفوذها محل بريطانيا في الشرق الأوسط من بوابة القاهرة من ناحية، وخطرا يهدد وجود إسرائيل «الابن المدلل» لأمريكا من ناحية أخرى.
وتفجر الصدام بين مصر وأمريكا والغرب لإصرار واشنطن على طرح مشروعات وأفكار تتعلق بالدفاع عن الشرق الأوسط وهو الأمر الذي اعتبره النظام المصرى الوليد وقتذاك «منطقة محرمة»، حفاظا على استقلالية القرار السياسي والمشروع الاقتصادي الكبير لبناء الدولة كأحد مكتسبات الثورة. وكانت هذه الزاوية هي محور الصراع الدولي مع مصر وتنامي رغبة الدول الكبرى في إجهاض محاولة إحياء تجربة محمد على في العصر الحديث.
ورحل «عبدالناصر» ثم جاء أنور السادات، ليجدد عقد ثورة يوليو، بانتصار 6 أكتوبر واسترداد سيناء بصك معاهدة «كامب ديفيد»، إلا أن التآمر ورصاص الغدر حرما مصر من عهد جديد ونقلة مهمة في تاريخها عقب الحرب. وكان من المفترض أن تتوج جهود وتضحيات جيل يوليو المغامر، ليتولى حسني مبارك المسؤولية ويحتكر السلطة 30 عاما امتثل في أغلب فتراتها للإرادة الأمريكية وإملاءاتها ولم يخرج من بيت الطاعة، لتعود مصر إلى أحضان الاحتلال السياسي والاقتصادي، ويبدأ الشعب رحلة البحث عن سطر جديد في تاريخ بلده العريق «مطمع الغزاة».
وكتب ميدان التحرير يوم 25 يناير 2011 السطر المنتظر بالثورة على نظام «مبارك»، لينجح في الإطاحة به خلال 18 يوما، ويقفز الإخوان على الحدث لينجحوا في تولي الرئاسة وإحكام قبضتهم على السلطة في 2012، وهو المشهد الذي يصب في مصلحة الغرب انطلاقا من قناعته بإمكانية ترويض التيار الإسلامي واستغلاله في تمرير الأجندة الأمريكية دون عوائق أو عقبات.
ولم يأت 30 يونيو عام 2013 على الهوى الدولي لتعارض أجوائه مع الهدف الأكبر وهو السيطرة على النظام في مصر، وفسرت دوائر صنع القرار العالمية مدعومة بوسائل الإعلام هذه الموجة الثورية الأخيرة في القاهرة بأنها نسخة عصرية من ثورة يوليو، خصوصا أن الجيش المصرى في صدارة الصورة بانحياز الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع وقتذاك لإرادة الشعب في عزل الرئيس الإخواني الأسبق، محمد مرسي، في مشهد أعاد إلى الأذهان تمرد الجيش على الملكية عام 1952، وظهور شبح الحقبة الناصرية.
ورغم اعتراف الدول الأوروبية رسميا بثورة ٣٠ يونيو، إلا أن أجهزتها الاستخباراتية لاتزال تصفها بأنها «انقلاب»، وتستخدم الإخوان وبعض الحركات الليبرالية، لعدم تحقيق الاستقرار في البلاد، والتصدي لفكرة ترشح السيسي للرئاسة. وقالت مصادر سيادية عقب اندلاع الأحداث إن دول الغرب تدفع ملايين الجنيهات، لعدد من رموز الإخوان وممثلي الحركات الليبيرالية للدفع بمرشحيهم في انتخابات الرئاسة السابقة في 2014 لمواجهة المشير عبدالفتاح السيسي، الذي أثار مخاوف «واشنطن» وحلفائها لكونه صاحب قرار، ويستطيع أن يتخذ إجراءات مهمة وخطيرة، مثل وقف العلاقات مع الدول الكبرى في استحضار لروح «عبدالناصر»، أو قرارا بالحرب أسوة السادات، وذلك وفقا لتقرير جهاز الاستخبارات الأمريكية «سي آي أيه».
وصعَّد الغرب من حملته الشرسة ضد «السيسي» حتى يوم إعلان اكتساحه معركة الرئاسة بـ98% من أصوات المصريين ليقطع الطريق على مخططات الخارج لإقصائه. وأصبح المجتمع الدولي مضطرا إلى إعادة النظر في العلاقات مع مصر، وهو ما أكدته صحيفة «جارديان» البريطانية، حيث رأت أن «الحكومات الغربية ستنتهج لغة ود وتفاهم مع السيسي مشيرة إلى أن أمريكا وبريطانيا تحديدا وضعتا اللمسات الأخيرة لخطابات تغازل الحكومة المصرية الجديدة، فحواها يركز على تأكيد مساندة الشعب المصري من منطلق تحقيق التحول الديمقراطي في البلاد».
ووصفت الصحيفة، «السيسي»، بأنه «تقلد عباءة عبدالناصر لشعبيته الجارفة، إلا أن «الانقلاب هو تعريف ما حدث في 30 يونيو وفقا لكل الأعراف والمعايير الدولية». وتابعت:«الدافع الحقيقي وراء عزوف الغرب عن معاداة (مصر السيسي) هو ظهور الدب الروسي على المسرح لتجديد شهر العسل مع مصر أسوة بفترة الستينيات، وكان هذا سببا كافيا ومشجعا على استئناف واشنطن بعض المساعدات العسكرية لمصر».
ودق بزوغ نجم «السيسي»، ناقوس الخطر في تل أبيب، كما كان الحال مع «عبدالناصر»، إذ أكد نائب رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية السابق، جايكوب نايريا، في تقرير صدر عن مركز أبحاث القدس للدراسات، أن شهرة «السيسي» وضعته في مكانة «ناصر» باعتباره «الوريث ومنقذ مصر»، مما يمثل تحديا كبيرا أمام إسرائيل والولايات المتحدة. وقال: «الأزمة بين إدارة باراك أوباما وعبدالفتاح السيسي، ساعدت في بناء قيادته كزعيم قومي جريء لا يتراجع أمام القوى العظمى، ومسلسل الأحداث في مصر يتجه إلى تجاوز (السيسي) حدود الوطني المخلص إلى البطل العربي».
وقال الكاتب اليهودي، العقيد السابق في المخابرات الإسرائيلية، مدير معهد دراسات الشرق الأوسط والإسلام في جامعة بار إيلان الإسرائيلية، موردخاي كيدار:«التطورات السياسية التي عاشتها القاهرة مؤخراً، أثبتت أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ومساعديه عاجزون عن إملاء شروطهم على دول الشرق الأوسط، و(السيسي) هزم (أوباما) وإدارته الداعمة للإخوان المسلمين، بإعلان الجماعة تنظيم إرهابي».
دلائل متنوعة وتغييرات تكتيكية في سياسة الغرب تحمل رسالة واضحة لا شك فيها بأن نظام «السيسي» حلقة أخرى ومثيرة من حلقات الصراع بين أطماع الكبار وأحلام الثورة، بما يعني أن «الجنرال الجديد» يحاول أن يصبح امتدادا لثورة يوليو ويعيد أمجادها ويجدد مبادئها حتى لو اختلفت الظروف السياسية وشكل الخريطة العالمية، ونهاية الحلقة السعيدة لن يكتبها إلا من يملك قراره.. ومن يصمد للحفاظ على هدفه وبقائه ومكانته في التاريخ وذاكرة الشعوب.