قبل عيد الفطر بأيام قليلة تبدأ كل أسرة في الإعداد لإجازة عيد الفطر المبارك بتجهيز الملابس والأحذية الجديدة والكحك والبسكويت وحتى الأسماك المملحة كالفسيخ والمدخنة كالرنجة، حيث تعد هذه الأسماك الوجبة الرئيسية في أول أيام عيد الفطر، بعد أن انقطعوا عنها طوال شهر رمضان لما يسببه أكلها من عطش شديد في نهار رمضان لكثرة الملح بها.
في مصر يوجد أكثر من 300 مصنع في القاهرة والغربية والمنوفية والشرقية ومحافظات أخرى، تتنوع بين الكبيرة والصغيرة، وساهم في ازديادها كثرة الطلب على الرنجة.
معظم هذه المصانع لا تخضع لأى نوع من الرقابة سواء الصحية أو الضريبية إلا القليل جداً منها، التي حصلت على تراخيص، وهو ما يؤدى إلى تلف كميات كبيرة نتيجة لسوء التصنيع، مما يغرى أصحابها بترويجها رغم التلف، تجنباً للخسارة، رغم تأثيرها الضار على صحة المواطن بصورة قد تصل إلى موت مستهلكها في بعض الأحيان.
وفى كل عام تطالعنا صفحات الجرائد بأخبار من نوع «ضبط أطنان من الأسماك المدخنة الفاسدة» أو «بلاغات بحالات تسمم نتيجة تناول رنجة فاسدة» لذلك رصدت «المصرى اليوم» من داخل مصانع الرنجة عملية تصنيعها بدءاً من كارتونة التجميد في حالتها «النيئة» حتى وصولها إلى طبق المواطن.
تبدأ مراحل تصنيع الرنجة من شراء كراتين أسماك الهارنج المجمدة، التي يتم استيرادها من هولندا والنرويج، من إحدى ثلاجات التجميد الموجودة على طريق مصر إسكندرية الزراعى، ومنها إلى ثلاجات المصانع استعدادا لتصنيعها.
وداخل المصنع يخرج العمال الكراتين من الثلاجة ويبدأون في تفريغها في أحواض كبيرة، لغمرها بالملح، كما يقول عماد حسين، عامل تمليح في المصنع، الذي حاورناه حين كان يقوم بفك السمك المجمد وعزل كل واحدة عن الأخرى قبل رميها في الحوض، ولاحظنا أنه مع كل كمية صغيرة من السمك يملأ يديه بالملح ليرشه على السمك.
ويشير عماد إلى أن أول وأهم مراحل تصنيع الرنجة هي التمليح، قائلاً: «أهم حاجة في تصنيع الرنجة هو الملح فكلما غمر السمك بالملح لمدة لا تقل عن 72 ساعة فقد نسبة كبيرة من الدماء بداخله وبالتالى يكون أقل عرضة للتلف».
على بعد خطوات منه وقفت بسمة سعيد، 19 سنة، التي خرجت من بيتها بإحدى القرى التابعة لمدينة طنطا بمحافظة الغربية متجهة إلى المصنع في الثالثة صباحا حيث تعمل وزميلاتها في مهنة «تسييخ» السمك وهى المرحلة الثانية من مراحل تصنيع «الرنجة» حيث تقوم بإدخال سيخ حديدى في حلق السمكة، بهدف تعليقها على «ترولى» وتعريضها للهواء حتى تجف.
وتقول «بسمة» إنه في آخر رمضان يزيد الطلب على الرنجة لتسويقها قبل عيد الفطر، الأمر الذي يجعلها تخرج من البيت في ساعة مبكرة لإنجاز الطلبيات مع زملائها في المصنع.
وأضافت: «كل عيد بيبقى فيه ضغط شغل جامد علينا لدرجة إننا لا نستطيع أخذ أي إجازة طوال شهر رمضان، الناس بتجيلنا هنا من كل مكان في مصر، وبيحملوا سيارات نقل كبيرة لتوزيعها على محال الجملة والقطاعى». المزيد
ما بين إرشادت وزارة الصحة وإحصائيات حالات التسمم التي تعلن عنها الوزارة باستمرار في مناسبات عيد الفطر مع إعطاء بعض الإرشادات ووصف كيفية التعامل مع الأسماك المدخنة ووضع ليمون وخل عليها لكى تكون أقل ضررا على صحة المواطن إلا أن معظم المتسوقين لهم رأى آخر هو أنهم: «مش هيقدروا يستغنوا عن الرنجة في أول أيام عيد الفطر» مطلقين عليه «عيد الرنجة».
وقفت أم عماد في أحد الأسواق الشعبية لتشترى 4 كيلو رنجة هولندى، وأخذت تقلب فيها واحدة بعد الأخرى وكأنها تزنها، لأنها تبحث عن الرنجة الممتلئة التي تحتوى على بيض السمكة «بطارخ» بداخلها.
«أم عماد» تحدثت عن العادات الثابتة بالنسبة لها قبل العيد قائلة: «كل عام أحضر إلى السوق من أجل شراء الرنجة قبل عيد الفطر بثلاثة أيام تقريبا وأقوم بتخزينها في الثلاجة حتى أول أيام عيد الفطر، حيث اعتادت بناتى المتزوجات على أن يعزمن أنفسهن على الغداء عندى في البيت، وبالطبع يطلبن الوجبة الرئيسية أن تكون «رنجة»، واصفة لها بأنها أحلى أكلة في أول يوم العيد. المزيد
أشارت دراسات حديثة إلى ارتفاع كمية الأسماك المجمدة المستوردة خلال الأشهر الستة الأولى المنتهية في 30 يونيو 2014 مقارنة بنفس الفترة من 2013، حيث بلغت واردات مصر خلال النصف الأول من العام الجارى نحو 115.7 ألف طن مقارنة بنفس الفترة من 2013 والتى بلغت فيها الكمية 93.7 ألف طن وبزيادة مقدارها 21%، وفقاً لما تم رصده من حركة الموانئ.
وتشمل الأسماك المجمدة التي تستوردها مصر الهارنج «سمكة الرنجة» الهولندى والنرويجى والماكريل، والهورس ماكريل، والساردين.
وتعتبر دول هولندا والنرويج واليابان وأمريكا وأيرلندا وإسبانيا من أكبر 5 دول مصدرة للأسماك المجمدة إلى مصر، وتحتل هولندا المرتبة الأولى، حيث تسد نحو 42% من احتياجات السوق المصرية، تليها النرويج بنسبة 15%، ثم أيرلندا بنسبة 10%.
وتكشف الدراسات التي أعدتها هيئة الرقابة على الصادرات والواردات الارتفاع شبه المتواصل للاستيراد المصرى من الأسماك المجمدة خلال السنوات الخمس الماضية، حيث بلغت الكميات نحو 149 ألف طن، 237.2 ألف طن، 230.4 ألف طن، 178.8 ألف طن، و212.3 ألف طن للأعوام من 2008 حتى 2012 على التوالى. المزيد
في سوق «الخميس» بالمطرية وخلف كومة من الصناديق تقف «أمل شوقى» ذات الـ38 عاماً، ترتدى عباءة سوداء وتنادى بصوت أجش مرددة عبارات «عندنا الدلعة.. عندنا الصابحة.. رخيصة أوى يا رنجة ولا استغلال المحلات.. رنجة العيد يا رنجة».
يعرفها المارة والعاملون بالسوق باسم «أكل رنجة» إذ ذاع سيطها في السوق، ويصفونها بأنها «ست بمائة راجل» إذ إنها استمرت لما يقرب من الـ30 عاما في بيع الرنجة.
بدأت أمل بيع الرنجة في سوق «المطرية» أو «الخميس» منذ أن كانت في سن الثامنة، حيث كانت تأتى بصحبة والدتها التي ورثت منها تجارة الرنجة، تقول أمل: «وعيت على الدنيا وأنا لا أعرف عملاً لى إلا بيع الرنجة، وكنت أذهب مع والدتى التي اضطرت إلى النزول إلى الأسواق لبيع الرنجة بعد أن رفض والدى أن يعمل عملاً إضافياً إلى جانب وظيفته كمدرس بإحدى المدارس الثانوية وقتها قبل أن يتوفاه الله، الأمر الذي دعا والدتى إلى النزول إلى سوق العمل بعد أن أنجبت إخواتى الـ6 وأصبحت عاجزة عن تلبية احتياجاتهم».
وقررت أمل أيضاً العمل لمساعدة والدتها بعد أن تركت المدرسة، لتبدأ تجارة الرنجة بشراء صندوقين فقط من أحد المصانع بمنطقة الدويقة مقابل 7 جنيهات ونصف، وكان هذا في عام 1985.
تضيف أمل: «كان عندى ساعتها 9 سنين تقريبا وكنت بروح المصنع لوحدى كنت بركب الترام لحد باب الشعرية ثم الأتوبيس لحد الدويقة، وكان الناس كلها بتساعدنى في المصنع وبيدولى البضاعة قبل الكبار». المزيد