حرب المبانى.. إسرائيل تدمر 3200 منزل على رؤوس أصحابها

كتب: رائد موسى الخميس 24-07-2014 20:01

أن تبحث بين مآسى غزة عن قصة أكثر مأساوية عن غيرها، فهذا عبث لا يمكن تحقيقه، فوراء كل مأساة حكاية، ولكل حكاية ضحايا، رحلوا، وخلَّفوا وراءهم من يبكيهم ويتألم في كل لحظة على فراقهم، فالموت ليس مأساة الميت، ولكنه مأساة من خلفه.

أيهما أكثر مأساوية، مجازر أودت بحياة أسر بكاملها، بعد قصف المنازل فوق رؤوس ساكنيها، أم استهداف المعاقين، أم إرهاب دفع عائلات إلى هجرة منازلها، بعد تلقيها تهديدات «إسرائيلية»، أو أم تعيش الرعب كل ليلة تتنقل بأطفالها من ركن إلى ركن داخل منزلها، بحثاً عن الأمان، في وقت نثرت فيه طائرات الاحتلال الموت في كل مكان؟!

السؤال يرسم الحرب الدموية المدمرة التي تشنها قوات الاحتلال «الإسرائيلى» على قطاع غزة، وخلفت جرائمها في كل بيت مأساة.

يمثل استهداف المنازل السكنية الآمنة واحدة من أعنف وأبشع الجرائم التي اقترفتها قوات الاحتلال «الإسرائيلى» خلال حربها ضد قطاع غزة، وحسب مركز «الميزان» لحقوق الإنسان، فإن الغارات الجوية التي شنتها مقاتلات حربية دمرت أكثر من 3200 منزل سكنى، من بينها أكثر من 480 منزلا تم تدميرها كلياً، وبعضها دمر فوق رؤوس ساكنيه، والباقى لحق به دمار جزئى متفاوت ما بين صالح للترميم والسكن أو لابد من هدمه لاحقاً وإعادة بنائه من جديد.

في هذه المنازل، نادراً، ما يتواجد الرجال والشباب، خصوصاً لو كانت لمقاومين أو نشطاء في فصائل المقاومة، فتكون الضحية غالباً نساء وأطفالا.

وحسب مركز «الميزان» لحقوق الإنسان فمن بين أكثر من 700 شهيد- وقت كتابة التقرير- هناك 165 طفلاً و84 امرأة، وغالبية النساء والأطفال استشهدوا داخل منازلهم أو في محيطها.

ومن بين جرائم قصف المنازل السكنية، تبرز عدة جرائم كانت الأكثر مأساوية، أبرزها غارة جوية «إسرائيلية» استهدفت عمارة السلام وسط مدينة غزة، وأودت بحياة المهندس إبراهيم الكيلانى وزوجته وأطفاله الخمسة، إضافة إلى أشقاء زوجته الأربعة.

وكان المهندس الكيلانى، ويحمل الجنسية الألمانية، قد اضطر إلى النزوح بأسرته من منزله في بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، واللجوء إلى عائلة زوجته في حى الشجاعية شرق مدينة غزة، قبل أن يضطر إلى النزوح مرة أخرى، بعد تلقى الحى تهديدات «إسرائيلية» بواسطة منشورات ألقتها الطائرات واتصالات هاتفية مسجلة ترهب السكان وتحثهم على الخروج من الحى.

ووفقاً لمقربين من المهندس الكيلانى فإنه قضى سنوات طويلة من حياته في ألمانيا بغرض الدراسة، ولا يعرف مبرر الغارة الجوية التي استهدفت المبنى السكنى الذي استأجر فيه شقة سكنية، هربا من حمم القصف الجوى والبرى «الإسرائيلى».

وتعرضت عائلة البطش في حى التفاح شرق مدينة غزة لمجزرة مروعة راح ضحيتها 19 من أفرادها، فيما فقدت عائلة غنام في مدينة رفح 5 من أفرادها بينهم معاقة، فضلاً عن جرائم لا تقل مأساوية في حق 40 عائلة أخرى فقدت شخصاً أو أكثر من أفرادها في استهداف منازلها، حتى أصبح في كل حارة ومنطقة منزل أو أكثر مدمر أو متضرر جراء القصف.

ويقول محمد البطش: «إن صواريخ طائرات (إف 16) الحربية حولت أجساد الشهداء إلى أشلاء متناثرة، وقد واجهت فرق طواقم الإسعاف والدفاع المدنى صعوبة بالغة في انتشالهم من تحت ركام المبنى الذي تعرض للقصف».

المبنى المستهدف ملاصق لمبان سكنية كثيرة ومتجاورة شرق مدينة غزة، وحسب البطش، فإن الغارة كانت مفاجئة ودون تحذير مسبق، وليس هناك أي هدف قد يكون معرضاً للقصف، وما زاد من أعداد الشهداء أن الغارة تزامنت مع خروج المصلين من صلاة التراويح من مسجد ملاصق للمنزل الذي تعرض للقصف.

وفى مدينة رفح على الحدود الفلسطينية المصرية، جنوب قطاع غزة، التي نالها قسط كبير من الجرائم «الإسرائيلية» خلال الحرب، يقع منزل عائلة غنام الذي تعرض لغارة جوية مباغتة، دون تحذير أو إنذار مسبق.

كفاح غنام، 21 عاماً، التي تعانى إعاقة في السمع، وتتلقى العلاج على أمل أن تسمع يوماً صوت والديها المسنين، ارتقت برفقة والديها واثنين من أشقائها شهداء في قصف منزلهم القريب من الحدود المصرية.

وصرخ نجيب غنام لحظة العثور على جثة كفاح، بينما كان يساعد طواقم الإسعاف والدفاع المدنى في مهمة البحث عن جثث العائلة تحت أنقاض المنزل المدمر، وقال: «ما الجريمة التي اقترفتها هذه الفتاة الصماء حتى تكون هذه نهاية حياتها؟! ربنا ينتقم من (إسرائيل) ومن يؤيدها ويساندها».

ويقول غنام إن كفاح كانت تخضع لبرنامج تعليم خاص في مؤسسة أهلية مختصة بمساعدة الصم، وكانت تبذل جهوداً كبيرة، وتحلم باليوم الذي تستطيع فيه أن تسمع ولو كلمة واحدة من والديها المسنين.

واستهدفت الغارة الجوية منزل غنام، بعد نحو ساعتين من تناول العائلة طعام السحور، ويقول حسنى الجمل، الذي يسكن في منزل مجاور لمنزل غنام المدمر، إن والد كفاح أدى صلاة الفجر إلى جانبه في مسجد الهدى الملاصق لمنزله، ولم يمكث في المسجد طويلاً كما اعتاد يومياً ولشعوره بالإرهاق عاد إلى منزله سريعاً، وكأنه كان على موعد مسبق مع الشهادة، رحمه الله، لقد كان رجلاً فاضلاً طيباً.

مدرسة كفاح في جمعية الصم هناء سلامة أصابها الانهيار عندما رأت جثة تلميذتها في ثلاجة الموتى في مستشفى أبويوسف النجار في المدينة، وقالت بكلمات بالكاد تستطيع تمييزها من شدة البكاء: «اغتالوا حلمها بالسمع، لقد كانت في المرحلة الأخيرة من العلاج».

وفى جريمة تجاوزت بها قوات الاحتلال كل الخطوط الحمراء، استهدفت طائراتها مقر جمعية «مبرة فلسطين» لرعاية المعاقين، المختصة برعاية شديدى الإعاقة في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، وسوت المبنى الذي يضم المقر المكون من طابقين بالأرض.

استشهدت معاقتان، إحداهما سهى أبوسعدة، 38 عاماً، المصابة بإعاقة عقلية شديدة، وقد تحول جسدها إلى أشلاء متناثرة تحت ركام المبنى المدمر، وواجهت طواقم الإسعاف صعوبة بالغة في «لملمة» أشلائها.

منى، شقيقة الشهيدة المعاقة سهى، أصيبت بانهيار عصبى وبكاء شديد، عندما تلقت خبر الجريمة، وهرولت ليلاً إلى مقر الجمعية غير آبهة بالموت المنهمر من طائرات تغطى سماء غزة، هناك، تسمرت أقدام منى من هول المشهد، وبكلمات قليلة استطاعت أن تتلفظ بها، قالت: «إنها جريمة ضد البشرية وضد الإنسانية، قصف جمعية معاقين، ما هذا الجنون؟!».

وعندما تمكن المسعفون من انتشال جثة سهى أو بعض أجزائها، لم تستطع منى التعرف عليها، لما لحق بوجهها من تشوهات كبيرة.

وتساءلت منى والدموع تنهمر من عينيها: «ما الجريمة التي ارتكبتها سهى ورفيقاتها المعاقات ليتم قصفهن بهذه البشاعة والوحشية؟!».

واستشهدت المعاقة حلا وشاحى، 32 عاماً، مع سهى، فضلاً عن إصابة معاق ومعاقة بجروح بالغة الخطورة، فيما أصيبت الموظفة المناوبة بجروح متوسطة. ورغم بشاعة الجريمة التي وصفتها مدير الجمعية جميلة عليوة بأنها «بشعة وغير إنسانية»، فإنها حمدت الله أن وقتها تزامن مع يوم إجازة للمعاقين النزلاء في الجمعية وعددهم 12 معاقاً ومعاقة، وإلا لكانت الجريمة أشد وأبشع.

ومن كان في مقر الجمعية لحظة تعرضها للقصف الجوى هم من المعاقين الأيتام، الذين لا يوجد لهم من يعيلهم ويستقبلهم في يوم الإجازة، فيقضون إجازتهم في الجمعية، فكان الموت مصيرهم، بفعل «عدو جبان لا يرحم حتى المعاقين الذين لا حول لهم ولا قوة.. هنيئاً لهم الشهادة والجنة»، هكذا قالت عليوة.

وفيما فقدت عائلات منازلها بالتدمير المباشر، أو بما لحقها من أضرار جراء استهداف منازل مجاورة، كانت عائلات أخرى أمام خيارين أحلاهما مر، إما النزوح عن منازلها القريبة من مواقع أمنية أو في مناطق حدودية خطيرة واللجوء إلى أقارب أو مدارس، وإما تفضيل عائلات أخرى البقاء في منازلها دونما شعور بالأمن.

حنان جبارة، 32 عاماً، تضع كل ليلة أطفالها الأربعة إلى جوارها، وتنتقل بهم من ركن إلى آخر في منزلها القريب من مطار غزة الدولى شرق مدينة رفح جنوب القطاع، بحثاً عن الأمان، في منطقة تعرضت لغارات جوية مكثفة استهدفت المطار المدمر وأراضى زراعية.

ومع كل انفجار يصدر عن الصواريخ وقذائف المدفعية يقفز الأطفال من نومهم فزعين، وتبذل الأم جهوداً مضنية في محاولة تهدئتهم وطمأنتهم، وبعد محاولات عدة تنجح في إقناعهم بالعودة إلى النوم من جديد.

وكان أكثر المواقف صعوبة التي مرت بحنان، عندما قصفت طائرة حربية «إسرائيلية» بناية سكنية خالية من السكان مكونة من أربعة طوابق تبعد حوالى 200 متر عن منزلها، وتقول: «شاهدت الانفجار مباشرة، وصدرت عنه أصوات مرعبة، وتناثرت حجارة المنزل المستهدف في أرجاء المكان، وغطى الدخان والأتربة منزلى، فلم أتمالك نفسى من الصراخ، واستيقظ أطفالى يتملكهم الرعب».

حملت حنان أطفالها، وهربت وسط الخوف والرعب إلى منزل جيرانها المجاور الذي تعرض كذلك لأضرار وتحطمت نوافذه الزجاجية.

قضت حنان وأطفالها ليلة مرعبة، فقد غاب عنهم النوم، وفى الصباح خرجت لتعاين ما حل بمنزلها، لتجد صاروخاً بطول مترين تقريباً أطلقته طائرة «إسرائيلية»، لكنه لم ينفجر، وسقط إلى جوار جدار منزلها، وقالت: «تخيلوا لو انفجر هذا الصاروخ الضخم، لكنت أنا وأطفالى في عداد الموتى».