«لا مكان آمن فى غزة».. هذا ما تعتقده «أحلام لافى» وكثير من سكان قطاع غزة الذين تمسكوا بالبقاء فى منازلهم ورفضوا النزوح عنها واللجوء إلى مدارس أو أماكن أقل خطورة، كما فعلت آلاف الأسر الفلسطينية التى هجرت منازلها، خصوصاً فى المناطق الحدودية، بعد تهديدات «إسرائيلية» وصلتها مع بدء العملية العسكرية البرية ضد القطاع الساحلى الصغير.
وتقطن أحلام مع زوجها وأطفالها الستة فى شقة سكنية تطل على شاطئ بحر مدينة غزة، وترفض بشدة فكرة النزوح عن بيتها واللجوء إلى مكان آخر، وتقول: «غزة كلها فى مرمى نيران الاحتلال، ولا أحد يأمن على حياته سواء فى الشارع أو فى المنزل أو حتى فى المدارس».
وخصصت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» عدداً من مدارسها فى مدينة غزة وجنوب القطاع كمراكز إيواء للنازحين عن منازلهم فى المناطق الخطرة.
لكن «أحلام» وكثيرا من الفلسطينيين يتمسكون بالبقاء فى منازلهم وعدم الامتثال لتهديدات جيش الاحتلال «الإسرائيلى» الذى بث آلاف الرسائل الإلكترونية المسجلة على هواتف سكان القطاع، يدعوهم فيها إلى النزوح والتوجه إلى مراكز المدن حفاظاً على حياتهم.
وتعتقد أحلام أن قوات الاحتلال «لا عهد لها»، وقد تغدر بالنازحين وترتكب بحقهم جريمة كما فعلت فى الحرب الأولى فى العام 2008 - 2009، عندما قصفت النازحين الذى لجأوا إلى مدرسة الفاخورة فى شمال قطاع غزة، وتساقطوا ما بين شهيد وجريح، وتساءلت: «هل كانت المدرسة مكاناً آمناً، وهل راعت إسرائيل أنها مدرسة تابعة لوكالة دولية؟».
ورغم إصرار أحلام على البقاء فى منزلها، فإنها تقر بأنها تعيش ساعات رعب حقيقية مع أطفالها، خصوصاً خلال ساعات الليل، حيث تنشط الزوارق الحربية «الإسرائيلية» المنتشرة فى عرض البحر، وتكثف من قصف شاطئ البحر ومرفأ الصيادين.
ومن باب الاحتياط وتجنباً لقذائف الزوارق الحربية، أخلت أحلام الغرف المطلة على البحر منذ اندلاع الحرب، وتنام مع أولادها وزوجها وشقيقتها التى تدرس طب الأسنان فى القاهرة وحلت عليها ضيفة لقضاء شهر رمضان المبارك فى صالون المنزل، اعتقاداً منها أنه أقل خطورة.
وتقول إنها تفتقد النوم بشكل متواصل، حيث تستيقظ مع كل انفجار ناجم عن غارة جوية «إسرائيلية» أو قصف من الزوارق، وتحتضن أطفالها وتحاول طمأنتهم.
وأضافت أن أطفالها - وأكبرهم 13 عاماً وأصغرهم عامان - يعانون من الخوف الشديد، بسبب كثافة القصف الجوى والبحرى، ويوجهون إليها أسئلة تعكس شعورهم بالرعب بسبب الحرب، فيسألونها: هل سيقصفون بيتنا؟، وهل سنموت فى غارة جوية أو بقصف البحر؟، حتى صغيرتها، صدف (عامان) التى لا تجيد الكلام، أصبحت تعبر بكلمات طفولية عن خوفها من الطائرة والصواريخ.
ويزداد خوف أحلام وأطفالها مع انقطاع التيار الكهربائى خلال ساعات الليل، وتقول: «يصبح الوضع أشد رعباً مع انقطاع الكهرباء وشدة القصف جواً وبحراً».
ويعانى القطاع من أزمة حادة فى التيار الكهربائى، زادت شدتها مع انقطاع الخطوط الناقلة للكهرباء القادمة من «إسرائيل» بفعل الغارات الجوية والقصف المدفعى.
واضطرت سلطة الطاقة الفلسطينية للعمل وفق برنامج طارئ فى توزيع الكهرباء، بحيث يتم وصلها فى مدينة غزة لست ساعات فقط يومياً فى مقابل قطعها 12 ساعة، فيما تزداد ساعات قطع الكهرباء فى مدن شمال القطاع التى استهلت فيها قوات الاحتلال عمليتها البرية وتسببت فى تخريب شبكات الكهرباء.
وإذا كان كثيرون مثل أحلام ممن فضلوا البقاء فى منازلهم فى ظل تحليق مكثف للطائرات الحربية «الإسرائيلية» فى أجواء القطاع، فإن آخرين فضلوا النزوح لدى أقاربهم أو اللجوء إلى مراكز الإيواء فى المدارس.
ولجأ حسن صلاح وأسرته المكونة من تسعة أفراد إلى مدرسة تابعة لـ«أونروا»، بعدما فر بأسرته من منزلهم فى بلدة بيت لاهيا شمال القطاع قبل يومين. وقال حسن وهو يجلس على مقعد خشبى فى أحد فصول المدرسة فى حى النصر بمدينة غزة «والله حرام، بيكفى قتل وتشريد».
وأضاف وهو يشير إلى أطفاله: «ما ذنب هؤلاء الأطفال حتى يعيشوا هذه الأجواء المرعبة؟». وتابع: «بعد أن وصلتنى تهديدات من جيش الاحتلال.. لم أجد بديلاً عن النزوح عن منزلى خشية على حياتى وحياة أسرتى».
ووصل عدد الفلسطينيين الذين فروا من منازلهم ولجأوا إلى مدارس فتحتها «أونروا» كمراكز إيواء، إلى أكثر من 17 ألف نسمة وفق أرقام أصدرتها «أونروا» يوم الأربعاء الماضى.
وقالت زوجة صلاح التى جلست فى فصل دراسى داخل المدرسة برفقة عدد من النسوة النازحات والأطفال: «هل هذه حياة؟!، إنها حياة لا تطاق، إلى متى ستستمر معاناتنا والعالم يتفرج؟»
وبينما كان نشطاء يوزعون على النازحين وجبات طعام، قالت: إننا لا نريد طعاما ولا شرابا، كل ما نريده هو العودة لمنازلنا وأن نعيش بأمن وسلام.
وتحولت أجساد ثمانية أشخاص من عائلة واحدة إلى أشلاء ممزقة بفعل قذيفة «إسرائيلية» أصابت منزلها فى بلدة بيت حانون شمال غزة.
ثمانية من عائلة أبوجراد بينهم أربعة أطفال وامرأتان، نالت منهم قذيفة مدفعية أصابت الطابق الثانى من منزل العائلة الذى كان يتواجد به لحظة القصف 13 شخصاً، غالبيتهم من الأطفال والنساء.
ووقع القصف المدفعى بعد أن تناولت العائلة طعام إفطار مساء الجمعة، ومع اشتداد القصف المدفعى المتزامن مع بدء العملية البرية فى بيت حانون والمناطق الحدودية المجاورة، تجمعت العائلة فى مكان واحد، فى محاولة لطمأنة الأطفال والنساء.
كانت بنات موسى أبوجراد المتزوجات لجأن مع أولادهن وأزواجهن إلى منزل أبيهن، بعد توغل جيش الاحتلال «الإسرائيلى» مساء الخميس الماضى فى شمال القطاع، فى عملية برية أعقبت عشرة أيام من العدوان «الإسرائيلى» العنيف على القطاع، الذى خلف مئات الشهداء والجرحى.
وقال عائد أبوجراد، بينما كان يتفقد من بقى على قيد الحياة من أبناء عمه فى المستشفى: «بعد تناول الإفطار بحوالى نصف ساعة قصفت مدفعية الاحتلال الأراضى الزراعية المحاذية للبيت بعدة قذائف». وأضاف: «سمعنا صوت انفجار ضخم وقريب، وتفاجأنا أنه داخل منزل عمى الملاصق لنا، وأدى إلى تهشيم واجهته واندلاع حريق فيه».
ويعتقد أبوجراد أن قذيفة المدفعية أطلقت بشكل مباشر على المنزل لأنها اخترقت شرفة غرفة النوم وسقطت عليهم مباشرة ما أدى إلى استشهاد ثمانية وتحويل أجسادهم إلى أشلاء، وجرح خمسة آخرين بينهم اثنان جروحهما بالغة.
وأكد أن القذيفة ضربت المنزل وهم بداخله، على حين غرة، دون توجيه تحذير مسبق أو إنذار للعائلة من أجل مغادرته قبل قصفه.
وتساءل أبوجراد والدموع تنهمر من عينيه: بأى ذنب تقضى جريمة بهذه البشاعة على عائلة بأكملها، وهى عائلة مسالمة وتقطن المنطقة منذ سنوات طويلة، وليس لها أى علاقة بفصائل المقاومة، وليس من بينها أى مطلوب أو مستهدف؟
ووصف أبوجراد ما حدث لأقاربه بأنه «جريمة بحق الإنسانية.. ووحشية إسرائيلية ضد البشرية»، داعياً العالم الحر الذى يدعى احترام حقوق الإنسان إلى الضغط على «إسرائيل» لوقف عدوانها الدموى على قطاع غزة قبل وقوع مزيد من الضحايا الأبرياء.
■ ■ ■
رصدت وزارة الصحة 25 حادثة قتل، فيها ثلاثة أفراد وأكثر من عائلة واحدة، فى هجمات «إسرائيلية» وغارات جوية أو قصف مدفعى، طاولت غالبيتها العظمى منازل سكنية.
ويزعم جيش الاحتلال «الإسرائيلى» أن غاراته على المنازل تستهدف نشطاء فى حركتى «حماس» والجهاد الإسلامى، وأخرى يتم تخزين وسائل قتالية فيها أو إطلاق قذائف صاروخية من مناطق مجاورة له، إلا أن سامر أبوطالب - هو واحد ضمن 14 فرداً فى أسرة فقدت منزلها جراء قصفه فى بلدة بيت لاهيا شمال القطاع - يدحض مبررات جيش الاحتلال، ويقول إنه لم يحدث أن أطلقت قذيفة صاروخية من منطقة سكنهم «فهى مكشوفة للجيش الإسرائيلى كونها ملاصقة جدا للسياج الفاصل، ولا أحد يجرؤ على أى نشاط منها». ويضيف سامر أن «جوهر الأمر ليس إطلاق صواريخ مقاومة بل ممارسات الاحتلال وعدوانه وما يمارسه بحقنا من إبادة ومجازر».
ورفض سامر وأسرته إخلاء منزلهم قبل قصفه، رغم دعوات الأهل والأصدقاء لهم بالنزوح لخطورة المنطقة، وقال: «أتحدى إيجاد مكان آمن واحد فى غزة، كل البلد تحت النار، وكلنا معرضون للموت فى أى لحظة وفى أى مكان».
واستهدفت قوات الاحتلال منزل سامر وأسرته بقذيفة مدفعية فى ساعات الفجر، ثم بعد ذلك قصفته بصاروخين، وأصيب سامر وزوجته وأطفاله الأربعة بجروح وشظايا قبل أن يسارعوا إلى مغادرة المنزل مع والديه وأشقائه، ويتابعون من بعيد مشهد طائرات الاحتلال وهى تسوى المنزل بالأرض. أقام سامر خيمة بجوار أنقاض ركام المنزل ودفع بوالديه المسنين إلى منزل أحد أقاربهم فى نفس البلدة.. لكن الأسوأ لم يقتصر على ذلك فقط بل إن سيارته التى يعمل عليها سائق تاكسى تضررت بشكل شبه كلى، أى أنه فقد الوسيلة الوحيدة التى تعينه على تدبر مصاريف معيشته وعائلته.
مع اشتداد المواجهة المسلحة بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، وتهديدات الاحتلال لسكان المناطق الحدودية فى شمال القطاع وجنوبه، دفعت بضعة آلاف من السكان إلى إخلاء منازلهم والنزوح خشية أى استهداف «إسرائيلى» لهم، وتوجه أغلب هؤلاء باتجاه مدارس «أونروا»، التى اكتظت فصولها الدراسية بالنازحين، وأغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن.
وفى مدينة رفح على الحدود الفلسطينية - المصرية جنوب القطاع، نزح زهاء 3 آلاف فلسطينى من بلدة الشوكة والمناطق المجاورة من منازلهم، بعد اشتداد القصف الجوى والمدفعى، عقب بدء العملية البرية فى المناطق الشرقية القريبة من السياج الأمنى. وقال محمد أبوشلهوب (45 عاماً)، إنه نزح وأسرته وجميع أقاربه والجيران من منازلهم فى شارع المطار على بعد 2 كيلومتر من الحدود الشرقية، إثر تساقط قذائف المدفعية «الإسرائيلية» قرب منازلهم السكنية. وأكد أبوشلهوب أنه وأسرته المكونة من عشرة أفراد نجوا من الموت بأعجوبة بعد سقوط إحدى هذه القذائف فى ساحة منزله.
وقال: أثناء استعدادنا للنزوح من المنزل سقطت ست قذائف، تسببت فى انهيار جزء من جدار الغرفة، ووقعت فى محيط المنزل، وقد تمكنا من النجاة بأنفسنا. لكن واحدة من هذه القذائف أصابت منزل جارى نظمى أبوعدوان، وأدت إلى إصابة عدد من أفراد أسرته بجروح متفاوتة. ولم تنجح سيارات الإسعاف فى الوصول إلى سكان المنطقة جراء كثافة النيران، فاضطر أبوشلهوب وأبوعدوان وجميع السكان إلى السير على الأقدام عدة كيلومترات، للهروب من المنطقة. ويقول أبوشلهوب إن هذه ليست المرة الأولى التى تستهدف فيها قوات الاحتلال منطقتهم، لكنه الأشد والأعنف من المرات السابقة، متسائلاً بحرقة ومرارة: «ما ذنبنا كى نتشرد عن منازلنا، ونفترش الأرض ونلتحف السماء فى المدارس؟ ولماذا هذه البشاعة فى استهداف المدنيين العزل داخل منازلهم الآمنة؟».