«كأني انتقلت من عالم له ألوان وناس يتمتعون بالحرية والسلام، إلى عالم غزة حيث تنعدم الحياة والسلام والأمان».. يقولها رجل في قسم الطوارئ بمجمع الشفاء الطبي وسط قطاع غزّة، يقف مرتديًا زي الأطباء، تتخلل ملامح وجهه الأوروبية صدمة شديدة وهو يعاين أجساد الشهداء والجرحى الفلسطينيين بقذائف الجيش الإسرائيلي المتساقطة على قطاع غزة، يتنقل بين أسِرَّة الجرحى والمصابين، واضعًا حول عنقه سماعته الطبيّة وفي جيوب ردائه الكثير من حاجيات المرضى، ليتفاجأ الجميع أنه ليس فلسطينيًا ولا عربيًا، بل هو الطبيب والناشط النرويجي، مادس فريدريك جيلبرت.
واحد ممن يسارعون الآن إلى إنقاذ الضحايا الذين يتوالى وصولهم إلى مجمع الشفاء الطبي في غزة جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع في العملية المسماة «الجرف الصامد»، وبرغم أن إسرائيل تكاد تُطبق على الغزيين، انتصر الطبيب والناشط النرويجي «جيلبرت» على هذا الحصار ودخل إليها عبر معبر رفح بعد أن منعته السلطات الإسرائيلية من الدخول عبر معبر «بيت حانون».
«جيلبرت» الذي ولد في الثاني من يونيو عام 1947 في مدينة بورسجرون النرويجية، لا يُغادر «الشفاء»، أكبر مستشفيات غزة، وبرغم أنه يرأس قسم طب الطوارئ في مستشفى جامعة شمال النرويج، لا يتواني عن الهرولة لمساعدة الفلسطينيين منذ السبعينيات، ويعد بمثابة كنز كبير للقطاع الصحي الفلسطيني الذي يعاني الويلات بسبب حصار غزة، فخبراته الدولية الواسعة تساعده أن ينقذ العديد من الجرحى الفلسطينيين، خاصة أنها ليست تجربته الأولى مع آلة الحرب الإسرائيلية المحرمة دوليًا.
ويعد الطبيب النرويجي من أبرز الأطباء الناشطين في العمل التضامني على مستوى العالم، فهو عضو في حزب اشتراكي نرويجي معروف باسم «الحزب الأحمر»، وليست هذه المرة الأولى له في القطاع، حيث ذهب «جيلبرت» إلى غزة أول مرة ضمن لجنة الإغاثة النرويجية مع مواطنه الجراح إريك فوس، وعمل في مستشفى الشفاء، خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع في 2008- 2009، في العملية التي عرفت بـ«الرصاص المصبوب»، كذلك إبان حرب حجارة السجيل التي بدأت بالقصف الإسرائيلي في 14 نوفمبر 2012 تحت مسمى عملية «عامود السحاب»، لذا يدعونه في مجمّع الشفاء بـ«الملاك»، وكتبوا اسمه على إحدى غرف المستشفى تكريمًا له وعرفانًا لجميله.
يقول «جيلبرت» وهو يمارس عمله في مستشفى الشفاء: «هذا فظيع ومروع وأمر لا يصدق.. ما يحدث ليس أقل من قتل متعمد وإبادة جماعية»، ويضيف: «زيارتي إلى غزة هذه المرة مختلفة جدًا فهي بكاملها هدف عسكري للطائرات الإسرائيلية ولا مكان آمن فيها، تسمع غارات القصف في كل مكان وترى الخوف والقلق على كل وجوه الناس والأطفال».. «الاحتلال الإسرائيلي يتعمد استخدام أسلحة فتاكة ومحرمة دوليًا في عدوانه المتواصل على قطاع غزة».
أسباب اهتمامه بغزة:
وعن استغراب البعض من حرصه على الوصول إلى غزة، رغم كل الصعوبات التي تواجهه للوصول إليها، وجه «جيلبرت» رسالة لأهل غزة قائلا: «على الناس في غزة أن يعرفوا أنهم ليسوا وحدهم، هناك العديد والعديد معهم على الرغم من أننا لسنا هناك الآن لكننا نحن معهم وعليهم ألا يستسلموا، فلا تستسلموا فإن شعوب العالم الحر يتأملون في صبركم ويستمدون من قوتكم فإن استسلمتم فإن الشعوب من بعدها سوف تستسلم».
ويؤكد «جيلبرت»: «كل الأمور التي تحدث في قطاع غزّة تدلّ على أننا أمام جريمة إنسانيّة، تمارس فيها أبشع أشكال الإجرام والعدوان، حتى قبل العدوان، يمكننا القول إن حصار غزّة بحد ذاته جريمة ضد الإنسانيّة تأتي ضمن سياسة العقاب الجماعي».
ويقول «كما الكثير من المتضامنين الأجانب، أرغب عبر حضوري إلى قطاع غزّة في إيصال رسالة للعالم عن كمّ الصعوبات التي يمرّ بها هذا القطاع المحاصر والجرائم التي ترتكب فيه من دون مراعاة الإنسانيّة والقوانين العالميّة، وذلك حتى تتوقف المعاناة ويتوقف نزيف الدم».
وأضاف: «الإصابات التي يتم علاجها هي من المدنيين وأكثر من نصف الحالات التي تصل إلى المستشفى هم من النساء والأطفال، وهذا يشكل انتهاكا جسيما للقانون الدولي الإنساني، فإسرائيل تستخدم أسلحة محرمة دوليا»، آملاً في تحرك المجتمع الدولي، وتوصيل صوت الأم الثكلى والطفل اليتيم للعالم، طامعا في مداواة جراح غزة ومحو الخوف والرعب من عيونها.