إنه عملاق «أفريقيا» العظيم وقاهر السياسة العنصرية البغيضة وواحد من أكبر رموز القرن العشرين، فإذا كانت القارة الآسيوية تتيه بزعيم مثل «المهاتما غاندى» فإن القارة الأفريقية على الجانب الآخر تتيه بالمناضل «نيلسون مانديلا» الذى قضى أهم سنوات عمره وراء القضبان محاربا سياسة التفرقة العنصرية، مدافعاً عن حقوق الأفريقى الأسود أمام واحدة من أعتى الأساليب الاستعمارية البغيضة التى كانت تمثلها سياسة «الأبارتيد»،
ولقد التقيت «مانديلا» فى عاصمة «ناميبيا» عشية إعلان استقلالها حيث كان «نيلسون مانديلا» الذى خرج لتوه من سجنه قبل ذلك بفترة وجيزة هو ضيف الشرف فى ذلك الاحتفال الأفريقى الدولى الكبير كما كان محط أنظار أجهزة الإعلام العالمية والمحلية،
وقد كنت مرافقاً لرئيس الدولة المصرية الذى سعى لمشاركة الأشقاء الأفارقة فى تلك المناسبة السعيدة وهى تحرير إحدى دول القارة وإعلان استقلالها، وقد تحدث «مانديلا» يومها فى لقائه مع الرئيس «مبارك» عن اعتزازه الكبير بـ«مصر» وذكرياته مع العمارة رقم خمسة فى شارع «أحمد حشمت» بالزمالك حيث مقر الجمعية الأفريقية، التى خرج منها فى مطلع الستينيات عدد من المناضلين فى المنفى الذين عادوا إلى أقطارهم الأفريقية رؤساء وزعماء وقادة،
وقد أفرط الرجل يومها فى الحديث عن «جمال عبدالناصر» ودوره فى تحرير وتنوير القارة، واعتبره الأب الشرعى لحركة التحرر الوطنى فى «أفريقيا» وروى كيف أنه جرى اعتقاله فور مغادرته «القاهرة» إلى «الكونغو»،
حيث كان مقرراً أن يعود إلى العاصمة المصرية خلال عدة أيام ليلتقى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ريثما يفرغ الأخير من بعض ارتباطاته والتزاماته فى ذلك الوقت ولكن ذلك اللقاء المنتظر لم يتحقق لأن السلطات العنصرية فى «جنوب إفريقيا» زجت بـ«نيلسون مانديلا» إلى السجن بدلا من أن يلتقى «جمال عبدالناصر» ثم يتحدث «مانديلا» أيضا فى ذلك اللقاء بعاصمة «ناميبيا» «ويندهوك» بإكبار شديد عن شخصية مصرية رائعة لها احترامها الكبير فى أنحاء القارة الأفريقية وأعنى بها الوزير الأسبق «محمد فائق» الذى كانت إسهاماته ضخمة فى المضى بالدبلوماسية المصرية تجاه القارة السوداء على نحو لا يزال مذكورا حتى الآن، حيث يشغل السيد «محمد فائق» موقع مبعوث الاتحاد الأفريقى لحقوق الإنسان فى أنحاء القارة،
كما أنه كان ضمن المجموعة الدولية الضيقة التى كان منوطاً بها اقتراح حلول لمشكلة دارفور على أمين عام الأمم المتحدة، والحقيقة أن مانديلا يحفظ العهد ويذكر الجميل ويرى أن «محمد فائق» كان رسولا مصريا ناجحا لعصر «عبدالناصر» فى القارة الأفريقية عندما كانت هيبة «مصر» هى الضمان القوى فى مواجهة الألاعيب والمؤامرات سواء كانت فى الشمال الأفريقى أو فى جنوب الصحراء أو حتى بين بعض دول حوض النيل، وقد بدا لى «مانديلا» يوم ذلك اللقاء وكأنه عملاق يقود أمة كاملة نحو المساواة والعدل ونحو الاستقرار والانفتاح حتى أصبحت «جنوب أفريقيا» تحت رئاسته وبعدها فى مقدمة دول القارة، تحصد معظم المزايا بدءاً من استضافة مونديال «2010»، مروراً بالمقعد الدائم فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وصولاً إلى مقر البرلمان الأفريقى ثم المنافسة الحادة للاستحواذ على المقعد الدائم للقارة المقترح عند توسيع مجلس الأمن،
ولست أشك فى أن جزءا من دور جنوب «أفريقيا» كان خصما تلقائيا من فعالية الدور المصرى وإمكانات الحركة أمامه، ولقد أفاض «نيلسون مانديلا» فى الحديث عن مستقبل القارة وآماله لها ورغبته فى استعادة الدور المصرى أفريقياً، مؤكدا أن التحديات لا تزال قائمة والمشكلات تحيط بالدول الأفريقية من كل اتجاه، كما عبر يومها عن دعمه للشعب الفلسطينى وانتقاده سياسات «إسرائيل»، وقال إن من عرف حياة السجون لابد أن يتذكر الأسرى فى أنحاء العالم وفى مقدمتهم الفلسطينيون.
ذلك هو «نيلسون مانديلا» الذى تفاخر به بلاده، وتزهو به قارته، ويتزين به النصف الثانى من القرن العشرين والعقد الأول من القرن التالى له، رمزاً للسلام، وأسطورة للحرية، وقبساً مضيئاً، يمضى تسعينيات عمره داعية للحق، مبشراً بالخير، مدافعاً عن المقهورين فى الأرض.