(هنا تقيأ جوته) هكذا تقول اللوحة المعدنية المعلقة أسفل نافذة بإحدى فنادق روما.
ويحكي الصديق الذي نقل لنا الحكاية أن الإقبال على هذه الغرفة الصغيرة في أحد الفنادق المتواضعة يجعلها محجوزة على مدار العام، مما يدفع ببعض الزوار -الذين لا يملكون العودة إلى روما مرات أخرى- إلى طرق باب الغرفة مستئذنين نزلاءها في زيارة سريعة ووقفة في النافذة حيث تقيأ أديب ألمانيا العظيم.
اشتهرت بعض بلدان أوروبا وفي مقدمتها إيطاليا وبريطانيا بمسارات السياحة المبرمجة، حيث يمكن للسياح أن يتتبعوا وفقاً لخرائطها المعدة مسبقاً مسارات النجوم والمشاهير الحقيقيين أو غيرهم، فإذا كنت من عشاق شارلز ديكنز مثلاً فيمكنك ليس فقط زيارة منزله أو المكان الذي اعتاد أن يكتب فيه، أو المدرسة التي تعلم فيها، بل يمكنك زيارة منزل الراهبة التي خلدها في روايته الشهيرة «أوراق بيكويك».
ويحكى لنا صديق من كبار الرحالة المعاصرين عن رحلات عديدة قام بها في أوروبا وفقاً لطريقة المسارات هذه، حيث يمكنك أن تختار من الكتيبات الإرشادية -المعدة مسبقاً- مساراً لرحلتك يتفق مع اهتماماتك، داخل هذا المسار هناك تعريف بوسائل المواصلات التي عليك أن تستعملها ومواعيدها وأماكنها، وإرشادات للوصول السريع إلى النقاط المركزية داخل المسار، وغيرها من إرشادات كفيلة بتسهيل رحلتك وتحويلها إلى متعة وتثقيف.
من أطرف المسارات التي حكى لنا عنها (مسار القتلة)، وهو مسار معد لكي يقود السائح على طريق يضم أشهر المناطق التي شهدت جرائم قتل في التاريخ، وفي كل محطة يمكنك التوقف والتعرف إلى تفاصيل تلك الجريمة، وكم كان طريفاً عندما توقف هذا الصديق وهو يبحث عن النقطة المخصصة للقاتل الشهير المدعو (جاك السفاح) ولما لم يجد أمامه سوى امرأة عجوز، فقد توجه إليها وسألها ببراءة عن كيفية الوصول إلى مكان جاك السفاح، فما كان منها إلا أن ركضت وقد تملكها الرعب منه قبل أن يتمكن من تهدئتها وبيان الموقف.
لطالمت أعجبتني هذه القصة وغيرها من قصص دول نجحت في ابتكار رحلات سياحية من الفراغ، ولطالما أغاظتني أيضاً لأنها تذكرني بخيبة الأمل المصرية في ابتكار طرق جديدة للترويج لبضاعتنا المميزة في الأساس، وكنت كلما ترددتْ أمامي هذه القصص تساءلت بيني وبين نفسي: ماذا لو كتب أحد الفنادق المصرية بجوار حوض الحمام مثلاً (هنا بصق نجيب محفوظ)! ثم ألقيت بالفكرة في سلة أمنيات الرفاهية التي لا يصح لنا أن نتحدث فيها قبل أن نعرف أولاً كيف ندبر لقمة عيشنا. إلى أن حدث ما غير نظرتي إلى الأمر.
في معرض كتاب أبوظبي الماضي، اقتنيت من دار روافد نسخة من كتاب (الجبتانا، أسفار التكوين المصرية) للكاتب مانيتون السمنودي وتحقيق على على الألفي، هذا الكتاب الذي سحرني، وشعرت معه -للمرة الأولى- بإنسانية الحضارة المصرية القديمة وعبقريتها في الوقت نفسه، أخذتني براعة السرد الذي اصطحبني معه في رحلة نشأة الحضارة المصرية وتطورها المادي والفكري، وهي -وإن كانت رحلة تجمع بين الخيال والأسطورة والأدب- إلا أن أبرز ما يميزها أنها ذات أبعاد جغرافية واقعية محددة ومعلومة، يمكن تتبع مسارها على خريطة مصر ببعض الجهد والخبرة، وفي كل بقعة هناك قصص وأساطير وحكايات وتواريخ وروايات مشوقة وماتعة، إلى حد جعلني أفكر كثيراً في تحويلها إلى عمل درامي مسلسل، أو الخروج منها بمشروع سينمائي متعدد الأجزاء، ولكن السؤال الذي سيطر على ذهني ودفعني لكتابة هذا المقال هو: لماذا لا تكون (الجبتانا) نواة لمشروع إنقاذ مصر؟
كيف يحدث ذلك؟
هنا أذكركم برحلات سياحة المسارات التي تحدثنا عنها، فإذا كانت الغرفة التي تقيأ فيها جوته نجحت في أن تكون مزاراً سياحياً، وإذا كان مسار القتلة قد حظي بإقبال السياح من أرجاء الأرض، فما بالك برحلة نشأة الحضارة المصرية وميلاد آلهتها وتطور منظومتها الفكرية والدينية وامتداد امبراطوريتها على الأرض! أليست هذه المسارات جديرة بأن تكون المزار الأول والأهم للسياحة في العالم؟
هكذا أفترض، ولكن من أجل أن يتحقق ذلك فإن المطلوب هو دراسة (الجبتانا) وتحويلها إلى مسارات جغرافية تمر بالقرى والمدن التي شهدت أبرز محطات أسفار التكوين المصرية، وتجهيز تلك الأماكن لاستقبال الزوار وسرد الجزء الخاص بها من الحكاية بوسائل عديدة كالمتاحف والمسارح وأشكال الفن المختلفة، وبأكبر عدد ممكن من اللغات، وبالطبع توفير أماكن الإقامة والترفيه الملائمة التي تجعل من زيارة السياح ممتعة لهم واقتصادية للمكان وأهله، ينتقل بعدها الزوار إلى القرية أو المدينة التالية ليشاهدوا الجزء الجديد من الحكاية، وهكذا نصطحبهم في جولة من أقصى مصر إلى أقصاها لا تخلو من المتعة والتشويق والترفيه.
هل يبدو الأمر حلماً بعيد المنال؟
إنه بالفعل ليس كذلك، شريطة أن نتجاوز مشاكل النمطية والجمود الإداري ومحدودية الخيال التي عانت منها الإدارة المصرية خلال العقود الماضية، المطلوب إرادة سياسية تتبنى المشروع، ثم دراسة مبدئية متحررة من الروتين والنمطية، يشارك فيها أساتذة التاريخ القديم والحديث والمعاصر، وأساتذة التخطيط العمراني وخبراء في عدد من المجالات كالطرق والمواصلات والسياحة والفنادق وغيرها، يعملون جميعاً لوضع تصور حقيقي مستمد من (الجبتانا) التي سوف تكون أداة الجذب والترويج الأهم لإعادة خلق الأسطورة المصرية.
بعد هذه الدراسة -التي يجب ألا تستغرق وقتاً طويلاً- يتم إنشاء شركة مساهمة مصرية ودعوة المصريين لشراء أسهمها وتكوين جمعيتها العمومية واختيار مجلس إدارتها، ثم دعوة بيوت الخبرة العالمية لتقديم عروضهم وفتح الباب أمام الاستثمارات الخاصة والدولية وفقاً لشروط تحقق الهدف وتحفظ الحق المصري، ويبدأ العمل مصحوباً بحملة إعلامية (كونية) للتعرف على (الجبتانا، أسفار التكوين المصرية) في موطنها الأصلي.
لن تعيد هذه الرحلة السياحة المصرية على خارطة السياحة العالمية فقط، بل سوف تضعها في مكانها اللائق بها، الذي طالما حرمها منه الإهمال وقصور الخيال، ليس هذا فحسب بل إنها – إذا أحسنا الترويج لها- سوف تعيد التعريف بالحضارة المصرية القديمة وتخلصها من كثير من المغالطات والافتراءات التي طالتها، وتقدم للعالم عنها صورة رائقة ومحترمة خالية من الأوهام.
إذا تحقق هذا الحلم، وقتها يمكننا أن نتقبل بروح مُحبة لوحات في مداخل فنادقنا تقول مثلاً (هنا بصق نجيب محفوظ) أو (هنا... عباس محمود العقاد).