في جلسة على المقهى، ذكر أحد الحاضرين أنه هنأ صديقه على فوزه بالجائزة. تساءلت: أي جائزة؟ قال: الدولة. سأله آخر: التقديرية؟ قال: لا التفوق. امتد الحديث عن الجوائز قليلاً، واكتشفنا أن معظمنا لا يتذكر أسماء الذين فازوا، والأهم أن القيمة الإبداعية للفائز لا ترتبط بقيمة الجائزة، فمن نراه يستحق التقديرية نجده في التفوق، ومن لا يستحق التشجيعية يفوز بجائزة النيل، لأنه سبق أن فاز بالدرجات الأقل، ومن الطبيعى أن ينال الترقية الأخيرة!
المفارقة المدهشة في جوائز الدولة هي أن قيمتها المعنوية بدأت في التناقص بالتلازم مع تزايد قيمتها المادية عامًا بعد عام. لم تعد الجائزة سوى مبلغ من المال، يأتى محاباة أو تحت شفاعة الاحتياج والمرض، حتى لو كان الفائز عظيمًا، فالمرض يصلح سببًا للمنح دون المكانة، لكن المكانة لا تصلح دون المرض، كما أن المكانة والمرض لا يشفعان معًا إذا كان الكاتب مستقلاً.
والذين يتصورون إمكانية اصطياد النمر من ذيله يتعبون أنفسهم في المطالبة بإصلاح الجوائز، لكن من يؤمن بالأنساق وارتباط الفروع بأصلها لابد أن ينظر إلى الجوائز باعتبارها فرعًا من وزارة الثقافة، وأن ينظر للوزارة باعتبارها فرعًا من النظام السياسى.
لم تكن لدينا وزارة ثقافة في النصف الأول من القرن العشرين، العصر الذهبى للثقافة المصرية. وفى عام 1958 ولدت وزارة «الثقافة والإرشاد القومى» تعبيرًا صريحًا عن نظام مسؤول عن عياله؛ يوفر الطعام والعلاج والتعليم والوظائف، ومن الطبيعى أن يتولى التثقيف والتوجيه.
ومع السادات بزغ نظام يدّعى الديمقراطية، لكنه في الحقيقة ديكتاتورية مراوغة؛ تملصت من مسؤولياتها تجاه المواطن وأبقت على هياكل الدولة فارغة: مدارس لا تعليم فيها، مستشفيات لا علاج فيها، ووزارة ثقافة بلا ثقافة.
مع مبارك، أخذ النظام السياسى ملامح التشكيل الإجرامى، وهذا ليس ذمًا، بل وصف لنظام يستخدم آليات العصابة، أي الاعتماد على قلة محدودة في المناصب القيادية، تتلقى الرواتب الضخمة، وتتولى منح العطايا للمتحالفين من خارج المنظومة الإدارية.
ولم تخرج وزارة الثقافة عن أصل النظام. حافظت على مصالح كبار موظفى الوزارة والمتحالفين معهم من حملة ألقاب «المثقف الكبير»، الباحثين عن جائزة أو طبع أعمالهم الكاملة أو الإشراف على سلاسل الكتب. والمدهش أن كل هيئات الوزارة تركت تخصصاتها وأخذت تنافس بعضها البعض في طباعة الكتب، لمجرد أن الكُتّاب هم أطول فئات المثقفين لسانًا. وماتت هيئة قصور الثقافة المعنية بالجماهير كما مات المسرح.
وقد ظلت دائرة رؤساء الهيئات والذين معهم من المثقفين ثابتة طوال عهد فاروق حسنى المديد. وليس مدهشًا أنها هي نفسها الآن بما في ذلك د. جابر عصفور نفسه، الذي كان تعيينه وزيرًا خيارًا إصلاحيًا قبل عشرين عامًا، لا اليوم.
وليس مدهشًا أن يواصل نفس الأفراد الأدوار نفسها: الموظف الكبير يمنح، والمثقف الكبير يمدح. وحتى لا نظلم عصفور؛ فثبات أسماء رؤساء الهيئات لا يبدو خيارًا حرًا منه بقدر ما هو تعبير عن تبعية الفرع الثقافى للأصل السياسى.
وليس في إعادة الأدوار أي إفادة سوى المزيد من ستائر النسيان تُسدل على الوزارة، ليبقى فاروق حسنى آخر وزير للثقافة، مثلما لن نتذكر وزيرًا للإعلام بعد صفوت الشريف، لا لفطنة خاصة يتمتع بها الرجلان، بل لأنهما استنفدا كل إمكانيات دولة التشكيل الإجرامى.