«ما-را-دو-نا».. محمود درويش يحتفي بفوز الأرجنتين بالمونديال

كتب: أيمن شعبان الأحد 13-07-2014 20:39

تتجه أنظار عشاق الساحرة المستديرة حول العالم إلى استاد «ماراكانا» في مدينة ريو دى جانيرو البرازيلية لمتابعة نهائي الأحلام لأقوى بطولات كرة القدم كأس العالم بين المنتخب الألماني القوي والمنتخب الأرجنتيني الرهيب اللذين نجحا في حجز بطاقتي المباراة النهائية بعد ماراثون صعب ومثير من المواجهات القوية على مدار 30 يومًا في أرض السامبا مهد كرة القدم على مر التاريخ.

وتجمع مباراة الأحد بين منتخبين بطلين سبق لهما التتويج باللقب العالمى أكثر من مرة، حيث توجت به ألمانيا أعوام 1954 و1974 و1990، بينما فازت به الأرجنتين مرتين عامي 1978 و1986.

ويبرز اسم الأسطورة الأرجنتيني دييجو مارادونا بوصفه بطلا لكأس العالم نسخة 1986، والذي كتب فيه حينها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قصيدة تحمل اسم «ما-را-دو-نا». قال فيها:

ما-را-دو-نا
لن يجدوا دماً في عروقه بل وقود الصواريخ

1- ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد؟
ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟
مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهراً تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟
ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى: بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟
الفرد، الفرد ليس بدعة في التاريخ.
يا مارادونا، يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟

2- سنتذكر لنسهر أكثر
فراغ الأمسيات يتقدّم منّا كطبل من حديد، فنحن لا ننتظر أحداً. سنجر الخطى الثقيلة في اتجاه بيروقراطية النفس والوقت، وسنضطر إلى قبول مواعيد أخرى، نستعيد فيها الثرثرة اليومية حول المناخ، والعنصرية، والحروب الأهلية..
وسنتذكّر، لنسهر أكثر، عصرا ذهبياً عاصرناه:
العصر الذي حل فيه مارادونا ضيفا على لهفتنا، فأقلعنا عن كل شيء لنتفرغ لما مسّنا من طقس: محبة مارادونا، وتسييج قدميه بفضاء الرحمة، والقفز على الشاشة لفك الحصار الألماني الثقيل، الذي يسد الهواء على توتر عضلاته، وهجاء الحكم البرازيلي، الذي كسر قلب مارادونا، كما يكسر الرجل الغليظ القلب قلب طفل بريء.. لا لشيء إلا لأنه يغار من عبقرية الطفولة.

3- يفلت كالصوت
له وجه طفل، وجه ملاك،
له جسد الكرة،
له قلب أسد،
له قدما غزال عملاق،
وله هتافنا: مارادونا.. مارادونا، فنتصبب اسمه عرقاً. ويقتلع الكرة كالقطة البلدية الماهرة، من أرجل البغل. يراوغ كالثعلب المزوّد بقوة ثور، ويقفز كالفهد على حارس المرمى الضخم المتحوّل إلى أرنب: جووول!
مارادونا يرسم علامة الصليب، يبوس الأرض. يقف. يُحاصرْ. يفلت كالصوت. يقطف الكرة. يحاصرْ. يمرر الكرة جاهزة على شكل هدية إلى قدم زميل ساعده في فتح قلعة الدفاع، فيصوّبها الزميل الماهر في اتجاه المدى والجمهور. مارادونا يصفق من الوجع.
إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصبا لعارها في الفوكلاند. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح انكلترا المغرورة الحرب مرتين.
ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة. مارادونا يعيد الجزيرة إلى الأرجنتين. وينبّه الإمبراطورية البريطانية إلى أنها تحيا في أفراح الماضي.. الماضي البعيد.


4- ما هذا السحر الجماعي؟
ما هي كرة القدم هذه؟ ما هذا السحر الجماعي الذي لم يحل لغزه الشائع أحد؟
مارادونا لا يسأل غريزته. سقراط البرازيلي هو المفكّر المشغول بتأملات ميتافيزيقية حول الضربة الركنية. وزيكو يلاحق كابوس ضربة الجزاء، التي طارت من الملعب فطارت البرازيل من الحلم. وبلاتيني يُحسّن شروط التقاعد. وبيليه الخبيث يُجاهد لإخفاء الشماتة التي تصيب الملوك المخلوعين. ولكن مارادونا يعرف شيئا واحداً هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه و.. كونه.
منذ طفولته الفقيرة في كوخ من تنك، تعلّم المشي على الكرة. كان يلف كرة الخيطان حول علب الصفيح ويلعب. ولعل الكرة هي التي علمته المشي.
مشى من أجلها. مشى ليتبعها. مشى ليلعب بها. ومشى ليسيطر عليها.
لقد تمحورت طفولته حول كرة الخيطان إلى أن ضحى أبوه براتبه الشهري ليشتري له كرة قدم حقيقية. وانطلق.. ليكون أصغر لاعب في منتخب الأرجنتين. وهكذا، ارتفع مارادونا ـ الولد المعجزة ـ من أشد البيوت فقرا إلى أوسع الآفاق، إمبراطوراً على كرة القدم.
لم يكترث في صباه بشاشة السينما والتلفزيون. ولكنه احتل الشاشة ـ ليشاهده أكثر من ملياري إنسان، كما ترنو العيون إلى نجم في السماء ـ بقدميه. لقد رفعته الكرة، وارتفع بها، إلى أعلى أعالي الكلام.

5- عذاب حارس المرمى وضربة الجزاء
مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم. دانت له بقدر ما دان، هو، لكرة القدم، التي صارت كرة قدمه. النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، لتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزم بهذا الامتنان: فما أسعد من هزمته قدم مارادونا!
هذه القدم، قدم مارادونا، مع كعب ميثولوجي آخر هو كعب أخيل.. هما أشهر قدمين في تاريخ الأسطورة.
فلماذا نخبئ التساؤل المكبوت، الذي يوقده فينا هذا الجنون الجميل، الجنون الذي تنشره كرة القدم، كالعدوى، في ملايين البشر: لماذا لا تكون كرة القدم موضوعا للفن والأدب؟ أكرر: لماذا لا تكون كرة القدم موضوعا للفن والأدب؟
ولماذا لا يتعامل الأدب مع هذا البارود العاطفي، الذي يشعل الملايين في علاقتها بالمشهد الذي يحولها هي إلى مشهد درامي؟ ثم: أهناك عذاب أشد، ووحشة أقسى من عذاب حارس المرمى، ووحشته الكونية، أمام ضربة جزاء؟
و: أهناك ضغط نفسي أثقل من ضغط الوقوف الدقيق على وتر النجاح أو الفشل، والتحكّم بمصير الأمة المعنوي، حين يقف الهدّاف الماهر لتسديد ضربة الجزاء؟.

أليست هذه اللحظات أشد قسوة ورهافة وتفجيرا للعاطفة الفردية والجماعية من اللحظات، التي يواجهها «مقامر» دستويفسكي، مثلا؟.