ظلت السيدة خديجة بنت خويلد «رضى الله عنها» المفضلة عندى من بين نساء النبى وأمهات المؤمنين، ورغم قلة ما يروى عن سيرتها، خاصة ما قبل البعثة إلا أننى خلقت لها صورة فى خيالى تكمل ما أسقطته كتب السيرة، حاولت أن أجيب فيها عن أسئلة شغلتنى: كيف كانت قبل زواجها بالرسول؟ ما هى مفاتيح شخصيتها القوية؟ كيف استطاعت أن تغنى الرسول بمالها وتحميه بعزوتها وتدعمه بحكمتها ورجاحة عقلها؟ كنت أفكر كثيرا كيف عاش الرسول معها ما يقرب من ربع قرن من الزمان دون شريكة؟ هل كان ذلك سيطرة من خديجة أم محبة من محمد؟ قرأت الكثير مما كتب عن السيدة خديجة الكثير من كتب ودراسات منها دراسة بعنوان «دثرينى.. ياخديجة» للباحثة التونسية دكتورة سلوى بلحاج صالح وهى دراسة تحليلية لخديجة بنت خويلد تعتمد فيها على الافتراضات والاجتهادات، وليست على روايات تاريخية مؤكدة، ولكنى أفضل حين نروى سيرة، خاصة الصديقين والصحابة أن نقترب من الحقائق، ونتبع المرويات الموثوقة، ونتلمس الصورة الناصعة لسيدة الجنة وخير نساء الأرض.
المؤكد عن السيدة خديجة أنها كانت من فضليات نساء مكة حسبا ونسبا وخلقا ومالا، وعرفت بلقب الطاهرة ولقب سيدة نساء قريش قبل زواجها من الرسول، ومثل هذه الألقاب لم تكن توزع مجاملة، لكنها كانت صفات سلوكية يمنحها المجتمع المكي لمن يستحقها مثلما لقب الرسول بالصادق الأمين قبل البعثة وهى صفات لم تنكرها عليه قريش يوما حتى حين ناصبوه العداء.
تزوجت السيدة خديجة مرتين قبل الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت من أثرياء مكة، كما ورثت عن زوجيها مالا كثيرا زاد من مالها، واستثمرت أموالها في التجارة، لكنها لم تتقرب من أثرياء مكة بحثا عن نفوذ أو زواج، بل تركت لعبيدها مهام التجارة، وعلى رأسهم ميسرة، وكانت تعطى التعليمات وتختار بحكمة ودقة من يتولى أمر تجارتها وتسأل عن خصاله وأمانته كما حدث مع الرسول، وكلما احتاج أمر العمل نقاشا أو اتفاقا مع أصحاب المال من كبار التجار، كانت تنجز اللقاء في منزل عائلتها الأشداء من بني أسد وفي حضورهم.
ولم يعرف عن السيدة خديجة أنها كانت تشارك فى أمسيات الشعر والغناء التى كانت تقام فى بيوت أقاربها من أسياد العرب كما كان يحدث فى بيت عبدالعزى بن عبدالمطلب المشهور بأبى لهب وكان جارا لها، وكانت نساء الحى يشاركن أم جميل زوجة أبى لهب فى تلك الأمسيات، لكن السيدة خديجة لم تنخرط يوما في مثل هذه الأمسيات، حتى اشتهرت بالسمو والتعالي، لكن ذلك لم يكن من منطلق الغرور أو التكبر، فاحتفظت بمودة وتقدير سكان مكة، وشاعت سيرتها الطيبة بين الجميع، ولما سألتها جارتها يوما عن سبب عدم مشاركتها لهن في أفراح السمر والترف، قالت بأدب ورفعة: ليس انتقاصا من أحد أو إنكارا لبهجة، لكن لأن نفسي لا تهفو لذلك، فكانت نساء قريش يذهبن إليها فى منزلها، وكانت معرووفة بالكرم والجود مع الجميع، خاصة الفقراء والمساكين، رغم عمل خديجة بالتجارة، لم يكن المال يشغلها ولم يستعبدها يوما أو يتحكم فى سلوكها، بل كانت نفسها مشغولة بالبحث عن القيمة والعلم، وتستزيد من معارف قريبها ورقة بن نوفل، فكانت تستمع بشغف واهتمام لحديثه عن نبي جديد اسمه أحمد سيضىء سماء العالمين بعد أن يرسله الله لهداية الخلق، فكانت تتمنى أن يطول به العمر لتعيش زمنه وتقابله وتتبع رسالته.
وكأن السيدة خديجة كانت تقرأ في كتاب الغيب، والثلاثاء المقبل نكمل القصة.
ektebly@hotmail.com