بكّار.. كَفّ الدولة الرقيق

كتب: محمد المصري الأربعاء 02-07-2014 23:22

لم تَكُن شخصية «بكَّار» صاحبة الترتيب الأول في المسابقة التي أقامها التليفزيون المصري في النصفِ الثاني من التسعينيات لإنتاج مسلسل كرتوني، لم تكُن الشخصية حتى في ترتيبِ الخمسة الأوائل، ومع ذلك كان العمل هو ما قرر التليفزيون إنتاجه في النهاية.

سواء كانت المعلومة المتدولة في الفقرة السابقة حقيقية أو لا، فإن المؤكد هو الحاجة التاريخية المُلِحَّة في ذلك الوقت لتجاوز عرائس رَحمي في «بوجي وطَمطم»، الذي استمر لقرابةِ 18 عاماً، ومواكبة النجاح الاستثنائي الذي تحققه أفلام الرسوم المتحركة القادمة من هوليوود، والخطوة الأولى الحقيقية نحو ذلك، بعد عدة تجارب بدائية، كانت مسلسل «السندباد البحري»، للمخرجة منى أبوالنصر، التي كانت تؤمن بأن «مسلسلات الكرتون قادرة على تحقيق نجاح استثنائي إذا تم الاهتمام بها، لأنها تشكل قرابة الـ85% مما يراه الطفل العربي»، مما يجعل التجربة «قادرة على النجاح ودعم نفسها بقوة».

حَمَل «سندباد» عوامِل نَجاحه منذ البداية: الاعتماد على شخصيات تراثية من عالمِ ألف ليلة وليلة، الإلهام والسَّير المُباشر على خُطَى مسلسل ياباني ناجح أُنتج في منتصف السبعينيات، كلماتِ الشاعر بهاء جاهين «اللّعِبَيّة جداً» في التتر الخاص بالمسلسل، صوت سامية الأتربي وهي تبدأ الحلقات وحولها مجموعة من الأطفالِ لتحكي لهم، قبل أن تبدأ الرسوم ومغامرات «سندباد»، بشخصياتٍ يعرفها الأطفال مسبقاً، وخيال مختلف عن عرائِس رحمي التاريخية، كل هذا حقق نجاحاً كبيراً للعمل، تماماً كما توقَّعت منى أبوالنصر، مما جعلها أكثر ثقة نحو الخطوة اللاحقة، الأكبر على الإطلاق، وهي تنفيذ أول مسلسل ذي شخصيات مصرية بالكامل: «بكّار».

كان العمل في البداية هو فيلما قصيرا مدته 18 دقيقة فقط، في مبادرة عام 1997 للاهتمامِ بالطفل الجنوبي، قبل أن تفكر منى أبوالنصر، مع المؤلف عمرو سمير عاطف، في تحويله لمسلسل كرتوني يعرض في رمضان، ووصفت الأمر بأنه «حلمها الأكبر»، كعملٍ كرتوني مصري بشكلٍ كامل، لا يعتمد حتى على تراث قصصي أو عوامل أخرى لنجاحه، ورغم أنه لم يكن في المراكز الأولى ضمن مسابقة التليفزيون حينها، فإنه ما قررت الدولة إنتاجه في النهاية.

كان «بكار» صورة مثالية لحِمل التصوُّرات التربوية الأبسط التي تملكها منى أبوالنصر عن شخصية الطفل المصري، صورة أيقونية، حتى وإن لم تكن حقيقية، للفتى الأسمر، مُجعَد الشعر، الذي يرتدي جلباباً و«صِديري» وطاقية، لتكون نموذج «الطفل المصري المثالي»، ومن تلك النقطة يمكن «تناول بعض القضايا المهمة وتوظيفها بطريقة محببة وبصفة غير مباشرة وفي قالب درامي»، بحسبِ وصفها، «وتنمية الوعي في أمورٍ مثل الآثار، العلم، القدس وفلسطين، البيئة، السلام»، وهو ما يتفق تماماً مع وجهة النظر الرسميَّة تجاه تكوين ووعي وأخلاقيات الأطفال، ليصبح الشكل المُباشر في التربية الذي تتبناه الدولة في التعامل مع الطفل هو الشيء الأبرز في تجربة أول مسلسل كرتوني ذي شخصيات مصرية بالكامل، والذي توفَّرت له كل الإمكانيات المُتاحة من أجلِ دَعمه.

المسلسل نَفسه حَمَل في داخله عامل جذب مُهما: الشخصيَّة والبيئة، الطّفل الجنوبي، بطل مُصَدَّر من منطقةٍ تم التعامل معها لعقودٍ طويلة كجزءٍ مَنسيّ على الخريطة، وعلى الرغم من أن تفاصيل هذا البطل غير حقيقية، وأن الأطفال في الجنوب لا يُشبهون «بكَّار»، فإن الاختيار نَفسه ساهم في نجاحِ العمل مع الجمهور: من هم في جنوبِ مصر تعاملوا معه بملكية وشعور بأنه مِنهم حتى لو لم يَكُن يُشبههم، ومن هُم في الشمال، وفي دائرة مركزية القاهرة، كان تناول عالم وشخصية غريبة عَنهم أمراً مُثيراً للاستكشاف والمُتابعة.

ورغم أن «بكَّار» لم يتحوَّل، على نَسَقِ الشخصيَّات الكرتونية الأبرز، إلى بَطَل يُقَلّده الأطفال ويَقتدون به، فإن مرور السنوات، وميعاد العَرض الأميز الذي جَعَله شريكاً للأُسَرِ المصرية ساعة الإفطار، جَعله ينجح ويَكبر ويستمر، ويحقق أعلى نِسَب مُشاهدة في الكثير من سنواتِ عَرضه.

وإلى جانِب كل هذا كانت الحلقات ذاتها، وقدرة صناع المسلسل على خلقِ الكثير من التفاصيل والشخصيات الأيقونية المهمة لأي عمل كرتوني، شخصيات مثل حَسُّونة صديق البطل، المعزة رشيدة، الأم، مَشرط الشرير، البيت وتفاصيل الأماكن التي تدور بداخلها الأحداث، الجملة المفتتحية لكل حلقة «هُويْ أصحابي»، أو اللكنة المميزة التي يتحدَّث بها بكّار نفسه، وكان الأهم ربما من أي شيء، خصوصاً في موسم المسلسل الأول عام 1998، هو محمد منير وظهوره في تترات العمل، والطريقة التي اقترن بها صوته، كلمات كوثر مصطفى، لحن عمرو أبوذكري، بلحظة ما بعد الإفطار، في ذلك العام ولسنواتٍ طويلة بعدها، ليصبح «منير»، وفي واحدة من أكثر لحظات مسيرته تماساً مع الناس، سبباً أساسياً في أيقونية المسلسل والشخصية.

استمر عرض بكَّار لـ9 مواسم، توفيت منى أبوالنصر عام 2003، وتبعها في إخراجه ابنها شريف جمال دون أن يتغير الكثير، ولكن كما كان وجود «بكار» أقرب لحتمية تاريخية، كان اختفاؤه أيضاً كذلك، بعدما زادت القنوات الفضائية بصورةٍ ضخمة، وأصبحت مُتاحة في كل البيوت، وانصرف الناس عن التليفزيون المصري، لم يعد هناك هذا «الاتفاق الجمعي» على شيءٍ محدد للحظة الإفطار، ورغم محاولات عديدة بعد ذلك لإنتاج مسلسلات كرتون مصرية، احتفظ «بكار» لنفسه، ورغم توقفه منذ 2007، بالنجاحٍ والأيقونية الأكبر، وربما يكون آخر عمل جماهيري التف الناس حوله في رمضان بتلك الصورة.