علي جمعة: متفائل بمستقبل مصر.. ولست نادمًا على زيارة «القدس» (حوار)

كتب: أحمد البحيري الثلاثاء 01-07-2014 08:29

أكد أنه ليس نادماً مطلقاً على زيارة القدس الشريف، وأنه لو أتيحت له الفرصة فسيزورها مليون مرة، إنه الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية السابق.

وأشار المفتي السابق إلى أننا نعانى من «فوضى الخطاب الدينى» بسبب تصدُّر غير المتخصصين للفتوى، مما يُحدث حالة من البلبلة والفوضى فى المجتمع.

وشدد على قوة الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، وأنها ظاهرة فريدة من نوعها يمكن تدريسها على مستوى العالم، معرباً عن تفاؤله الشديد بمستقبل مصر، وأنها ستخرج من محنتها إلى «المنحة»..

«المصرى اليوم» التقت الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية السابق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، فكان هذا الحوار.

■ كثرت فى الآونة الأخيرة الفتاوى التى تخرج عن غير المتخصصين، والتى تُثير الكثير من البلبلة والجدل فى المجتمع، فما رأى فضيلتك فى ذلك؟

- نطلق على هذه الحالة «فوضى فى الخطاب الدينى»، وقد أحدثها بعض الأشخاص الذين لا يعبّرون إلا عن أنفسهم، وليس عن جهة رسمية، وأحدثوا فوضى فى الخطاب الدينى، فتجد أحدهم يتحدث عن الدين وإذا بك أمام متشدد، وتذهب للآخر فتجده متسيباً، وتجد ثالثاً وسطاً، ورابعاً يحصر الدين فى الروحانيات، وخامساً يحصر الدين فى السياسة، وهكذا، ما يخلق حالة لدى الناس من الجدل والبلبلة من كثرة هذه الاختلافات فى الخطاب الدينى، لذلك أطلقنا على هذه الحالة فى أدبياتنا «فوضى الفتاوى» لكنها ليست فوضى للفتاوى بالذات، إن فوضى الفتاوى تحدث عندما نسمى الإجابة عن أى سؤال «فتوى»، مثلاً عندما يسألنى أحد عمن كان مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى الغار، فهذه ليست فتوى، وقس الأمر على ذلك، والناس تسميها فتوى، ونحن وراءهم نسميها كذلك، ومن هنا نؤكد أن الفتوى أمر يتعلق بالعمل، والتفريق بين المسائل والقضايا، وبين الرأى والفتوى وإجابة السؤال أمر مهم جداً.

■ ولكن هل يمكن أن يؤسس المفتى فى أى دولة فتواه على ضوء اعتبارات سياسية دون النظر للقواعد الفقهية؟

- من المعروف أن المفتى يؤسس فتواه وفقاً للشرع ومصالح الناس، لا على أى اعتبار آخر، فالإفتاء منهج وطريق واضح محدد يتعلق بمصادره وطرق البحث وشروطه، كما أن أصل الفتوى به ثلاثة أركان أساسية هى: المصادر، والواقع الذى نسقط عليه الفتوى، وكيفية الوصل بينهما، فالواقع جزء من الفتوى وركن من أركانها، والوصل يتم عن طريق دراسة المصالح والمقاصد الشرعية ودراسة المآلات ما دام ستؤول إليه هذه الفتوى، ودائماً ما نتحرى ذلك لأن هذه أصول الفتوى، وهذه هى الطريقة التى تخرج بها الفتوى.

■ ما الصفات التى يجب أن تتوافر فى الفقيه أو من يتولى الإفتاء من وجهة نظر فضيلتك؟

- الفقه يحتاج إلى شخص عالم فى الفقه والأصول، وهو يحتاج إلى شخص ماهر فى «الصنعة»، وصاحب ذهن قوى جداً، ولا يحتاج إلى شخص يحفظ نصوصاً ولا يفهمها، أو من لا يعرف شيئاً عن واقع الحياة، هو لا يحتاج لكمبيوتر يحفظ، ولكنه يحتاج إلى ذهن عبقرى مبدع يربط بين الأشياء كلها ربطاً صحيحاً، فيكون فى ذهنه مجموعة القواعد الفقهية التى توصل إليها الفقهاء، وهى نحو خمسين قاعدة أساسية وخمس قواعد أمهات، ويكون فى ذهنه المبادئ القرآنية العامة، وهى قرابة ثلاثين مبدأ، ويكون فى ذهنه أيضاً علم المقاصد الشرعية، وفقه المآلات، وفقه المصالح والمفاسد، وهذا كله يكون شبكة مترابطة فى عقل الفقيه، ويحقق له هدفين عظيمين هما: عدم الغياب عن الدين، وعدم الغياب عن العصر.

■ كيف يمكن التواصل مع الآخر رغم عدم اعترافه بنا؟

- الدين الإسلامى يؤمن بالتعددية الثقافية داخل المجتمع الواحد، ويدعو إلى الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات المختلفة، فالتعايش السلمى ونشر ثقافة الأمن والسلم الاجتماعيين كانا وما زالا سمة أساسية من سمات الحضارة الإسلامية على مر العصور‏، وإننى أدعو لفتح باب الحوار بيننا وبين الآخر، على أسس علمية تتجاوز الحوار والتقريب النظرى إلى مشاريع عملية تخاطب الجماهير والمواطنين، خاصة أنه لا تزال هناك مساحات كبيرة يمكن الاطلاع عليها بين الأطراف فى الوطن الواحد‏.‏

■ وهل تعتقد أن الطرف الآخر يستجيب لذلك؟

- علينا أن نستوعب أدب الخلاف ونطبقه كقيمة عملية، وهو ما نتمناه فى معالجة المسائل الدينية، خاصة تلك المعروضة على الرأى العام‏،‏ والالتزام بميثاق شرف يلتزم به الكاتب فى مناقشته أو نقده بالأدب العالى لا بالإسفاف بالحديث.‏

■ ماذا عن تجديد الخطاب الدينى فى وجهة نظر فضيلتك، وهل هناك ضرورة ملحة لذلك فى الوقت الراهن؟

- الشريعة الإسلامية تعتبر التجديد نعمة من نعم الله علينا، بل إن التجديد فى الدين أمر واجب التنفيذ، فالتجديد فى الدين نعمة يمنُّ الله بها على هذه الأمة الخاتمة، ومن هذا قول سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)، والشىء الذى لا ينتبه الكثير من الناس إليه أن «تجديد الخطاب الدينى» موجود وحاضر طول تاريخ الإسلام، كل زمن حسب مقتضياته وأدواته، وطبقاً لظروفه وأحواله، وهذا ما جعل الدين صالحاً لكل زمان ومكان‏، لكن للأسف فى العصر الحاضر صار لمصطلح التجديد دلالات سلبية عند كثير من الملتزمين التراثيين، لما شاع عندهم من أن التجديد معناه التفلت من تكاليف الشرع كلها أو بعضها أو مخالفة ما استقر عليه العلماء المخلصون، أو أن المراد من‏ التجديد هو الانتقاء من النصوص الشرعية بما يتفق والأهواء والمصالح الشخصية، أو أن التجديد يشمل الثوابت والمتغيرات وغير ذلك مما شاع عند العامة من المتدينين‏.‏

وحتى نزيل ذلك اللبس من نفوس المتخوفين نقول إن لفظ «التجديد» ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية بمعنى البعث والإحياء والإعادة‏،‏ وليس بمعنى الإنشاء والخلق، وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية عند علماء المسلمين، وبالنسبة لتجديد الخطاب الدينى فالمقصود به تجديد القوالب والوسائل التى تعرض الفقه الإسلامى بمعناه الشرعى والحضارى، وهو ما نسميه إدراك الواقع، ونستدل بهذا على أن الفهم فى النصوص متجدد، ولا يكون كذلك إلا عن طريق أدوات الفهم الواردة فى التراث مع ما يقتضيه الواقع من متغيرات وتعقيبات‏.

■ ما سبل النهوض بالدعوة الإسلامية وبالدعاة من وجهة نظرك؟

- الكلمة كالبذرة، تلقيها فتنبت شجرة تؤتى ثمارها- إن شاء الله تعالى - وما يغذى هذه البذرة هو الإخلاص ووضوح الرؤية اللذان بهما نستطيع النهوض بالدعوة‏، وكى يكون الداعية مؤهلاً عليه الاستمرار فى تلقى الدورات التدريبية والاطلاع على الكتب والمراجع اطلاعاً وافياً، إلى جانب أنه يجب أن يعيش الداعية عصره، فيكون ملماً بما يحدث حوله، وما يستجدّ من أمور تستلزم منه التأقلم معها، بما يوافق الشريعة‏.‏‏

■ فضيلتك تدعو دائماً إلى الابتعاد عن وسائل الترف من أجل بناء الاقتصاد المصرى من جديد، فهل تعتقد أن هذه السياسة كفيلة بدفع عجلة الاقتصاد والتنمية والتطوير؟

- نعم، ومازلت أدعو إلى ذلك، لأن هذا سيصب فى صالح الاقتصاد، ويعطيه الدفعة والقوة، لذلك لابد من إعادة النظر فى نفقات الدولة، وفق ميزان الأولويات والمقاصد العامة والعليا، من خلال إعادة ترتيب الاحتياجات الخاصة بنا إلى مراتب تبدأ بالأهم فالمهم فالأقل أهمية (الضروريات، فالحاجيات، فالتحسينيات).

والضرورىّ هو ما يستحيل العيش بدونه، والحاجىّ ما يشق العيش بدونه، والتحسينىّ ما لا يكمل أو يجمل العيش إلا به، وما فوقه إسراف، والله لا يجب المسرفين، وبالتالى سنجد أن الدولة المصرية الجديدة مطالبة بأن تراعى هذا الميزان فى ظل محدودية الموارد واتساع الغايات، لأن القاعدة الاقتصادية والعقلية الكبرى ترى أنه فى ظل ضآلة الموارد التى تعم الحياة، فإن كل اختيار لابد أن ينطوى على تضحية، ولا يكون هذا إلا بترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، وعلى الدولة المصرية الجديدة أن تقلل- إن لم توقف- نفقاتها فى كثير من المجالات التى لا تمثل ضرورات للمجتمع، وأن تعيد توجيهها إلى ضرورات الوطن، ولست أجد مثل التعليم ضرورة فى هذا الصدد، لا بد من توجيه نسبة ضخمة من الإنفاق العام إلى التعليم الأساسى والعام والعالى، الأزهرى والمدنى، فالتعليم هو بوابة العبور للقرن الحادى والعشرين، ولا حياة لنا إلا بالنهوض بالتعليم والبحث العلمى.

■ هل لدى فضيلتك تصور للانتقال بمصر من مرحلة المواقف إلى مرحلة الواجبات والبناء والتطوير؟

- إن التغيير والتطوير سنة إلهية من سنن الله الكونية، ونحن سنظل دائماً فى حاجة إلى التغيير الذى هو ضرورة حضارية وسُنَّة حياتية ومبدأ إسلامى، ومصر فى مرحلة ما بعد الثورة بحاجة إلى أفكار ورؤى تساهم فى بنائها، نوجزها فى مجموعة من الرسائل، أولاها دعم فكرة المؤسسية، التى تعنى انفصال المؤسسة عن الشخص، أى بقاء المؤسسة بعد رحيل الشخص عنها، وهى ذاتها تعنى ما ينادى به كثير من الناس من المشاركة وتداول السلطة والمسؤولية وغيرها من الأفكار، ومنها أيضاً بناء أجيال جديدة قادرة على استكمال المسيرة، وهو ما حققته بالفعل دار الإفتاء ببناء الجيلين الثانى والثالث من طلاب كلية الشريعة بجامعة الأزهر، والرسالة الثانية تمثلت فى أهمية العمل المدنى، ومشاركة الجميع فى هذا العمل من كل الطوائف بمن فيهم رجال الدين، وكذا الاهتمام بالصحة والتعليم والبحث العلمى الذى هو أساس الحضارة، والذى بدونه لن نستطيع بناء أجيال وسنظل ندور فى حلقة مفرغة، والرسالة الثالثة هى تأصيل قاعدة «التعمير قبل التدمير» أو «التعمير لا التدمير»، أى يجب علينا أن نعمر ثم نعمر وليس فى خطتنا أن ندمر، نعمر مصر بسواعد أبنائها بعيداً عن أى شكل من أشكال التدمير، وتوصيل رسالة الأمل الفسيح إلى الناس، حيث إن كثيراً من الناس محبط وقلق وخائف من المستقبل، لكن قضية الأمل هى التى ستجعل الناس تعود مرة أخرى إلى العمل وإلى السعى والاجتهاد، والرسالة الرابعة تؤكد العمل على منظومة القيم الأخلاقية التى يجب الاهتمام بها اهتماماً كبيراً، والتى تشمل قيم التسامح والحرية الملتزمة والمساواة العاقلة والديمقراطية والشورى والتكافل الاجتماعى والصدق والشفافية والمسؤولية والمحاسبة، بالإضافة إلى قيمة العدل.

■ بعد حدوث ثورتين متتاليتين فى مصر، وهما 25 يناير و30 يونيو، هل ترى فضيلتك أن هناك خلطاً لدى الشعب فى فهم معنى الحرية الآن؟

- إن الحرية تعنى الالتزام بالمرجعية والشرعية ولا تعنى التفلت واتباع الأهواء، فديننا الحنيف يدعونا إلى الحرية عبر طريق الأخلاق الحميدة، والآخر يدعو إلى التفلت عبر طريق إراقة الدماء، وهما طريقان متباينان فى البداية وفى النهاية، والعاقل خصيم نفسه، لذا أطالب الجميع بالالتزام بالحرية التى تعنى الأخلاق الحميدة واحترام المسافات الموجودة بين بعضنا البعض، ومراعاة الآداب والسلوكيات القويمة فى الحوار، وأحذر الجميع من الرويبضة، وهو الرجل التافه يتكلم فى أمر العامة.

■ ما الذى تريد أن توجهه إلى الأمة فى ظل ما تمر به من أحداث فارقة فى تاريخها؟

- أولاً لابد من التزام الصدق، فهو أولى خطوات الإصلاح، فلا أمل فى بناء مستقبل بلادنا إذ لم نلتزم الصدق، فالكذب هو أول معاول هدم الحرية، حيث يأسر الإنسان فى واقعه المزيف، فلا حرية بلا صدق، ولا معنى للحياة بلا حرية، ثانياً أن نتحلى بأمانة الكلمة، لأن أمانة الكلمة عبء هربت منه السماوات والأرض وتحمّلها الإنسان، ولكى نحافظ عليها علينا بالجد فى توثيق معلوماتنا، ولنرتقب قول رسولنا المصطفى: «كفى بالمرء كذباً أن يُحدّث بكل ما سمع». إن أمانه الكلمة فوز عظيم لمن صانها وخزى مبين لمن أهانها، وثالثاً أوجه للناس نداءً فأقول لهم إن بناء العقلية الواعية يحتاج إلى الإخلاص والصواب، وعنوان الإخلاص الصبر، ومفتاح الصواب العلم، فتسلحوا بالصبر والعلم وابتعدوا عن الأهواء والهزل، وابنوا عقولاً رشيدة تدافع عن بلادها وتبنى مستقبلها.

■ من وجهة نظر فضيلتك ما المدى المقبول به لتداخل السياسة والدين؟

- السياسة لها معنيان: معنى رعاية شؤون الأمة، ومعنى آخر وهو المعنى الحزبى، ونظراً لأن الدين يرعى شؤون الأمة فهو يتعرض للسياسة من هذه الناحية، لكن لا يتدخل أبداً فى السياسة الحزبية واللعبة الحزبية، لأن هذه أدوات تتغير بتغير الزمان فلا سياسة حزبية فى الدين.

■ ماذا كان يمثل الشيخ عماد عفت، رحمه الله، بالنسبة لفضيلتك؟

- الشيخ عماد عفت كان أحد أبنائى وتلاميذى النجباء، وكان نموذجاً للابن البار، الذى شعرت بالحزن الشديد لفقده، فهو علاوة على أنه ابنى الذى لم أنجبه- واحد من أصحاب العلم المقترن بالخلق القويم، ولقد بكيته وكان بكائى عليه بكاءً على المستقبل والبلد وعلى العلم، لأنه بموت العالم تبكى عليه السماء والأرض، ولقد ذكرنى موته بما كان يفعله نابليون بونابرت عندما جاء إلى مصر ليهدم نهضتها وحضارتها فأخذ يقتل فى علماء الأزهر، ووصل به الأمر إلى أن قتل 5 علماء منهم كل يوم، ليظهر نيته فى القضاء على الحضارة والنهضة، والمؤلم فى قضية الشيخ عماد أن يُقتل على يد أبناء وطنه وهو أمر غير مقبول ولا مفهوم.

■ ولكن هل رفضت فضيلتك نزوله فى ثورة 25 يناير؟

- كان الشيخ عماد، رحمه الله تعالى، من أوائل من نزلوا فى يوم 25 يناير، وكنت أعلم هذا ولم أمنعه من النزول، لأنى علَّمت أولادى على الحرية، وعلى أن أختلف معهم فيما أذهب إليه، ولكن هو فى النهاية مسؤول عما يفعل، ومسؤول عما يعتقد، إذا التجأ إلىَّ بيَّنت له وجهة نظرى، ولم أختلف معه حول شرعية النزول، وأرسل لى الشيخ عماد خطاباً أخبرنى فيه بأنه يشم رائحة الجنة فى التحرير، وأن هواء التحرير خيرٌ عنده من هواء الكعبة.

■ هل ترى أن المجتمع بحاجة إلى إشاعة ثقافة الاختلاف والتدريب على قبول الآخر؟

- نعم نحتاج إلى ذلك على كل المستويات وتحت أى ظرف، فلا ينبغى أن يصل الخلاف بيننا إلى مرحلة الصدام، بل لا بد أن يكون الخلاف على مستوى الأفكار ولا يصل إلى الأشخاص، بمعنى أنه لو حدث خلاف بينى وبينك حول حقائق أراها من وجهة نظرى من مدخل معين وأنت تراها من مدخل آخر، لا ينبغى أن يصل الأمر بيننا إلى الصدام، إنما يجب أن نبحث عن المشترك فيما بيننا، والذى يجب أن يكون موجوداً، وفى حالة انعدامه فهذا يعنى الوصول إلى مرحلة الصدام، ولكى ندرب أنفسنا والمجتمع معنا على فكرة قبول الآخر وقبول الاختلاف معه، علينا أن نصل إلى مرحلة التوافق والاستقرار، وذلك من خلال إشاعة ثقافة الحوار فيما بين الإنسان وأخيه أو بينه وبين الآخر، وأيضاً يجب أن نبحث عن المشترك الذى به التعاون والانطلاق، وأن نستوعب التضاد فى وجهات النظر ولا نحوله إلى صدام.

■ الآن وبعد مرور هذه السنوات من زيارة فضيلتك للقدس، هل تشعر بالندم على هذه الزيارة؟

- لست نادماً مطلقاً على هذه الزيارة، فالقدس الشريف بلادنا وواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلى البغيض، ولا يمكن أن نفرط مطلقاً فى بلادنا. زيارتى للقدس هذه السنة كانت لأن خطة قوات الاحتلال الإسرائيلى آنذاك كانت «تهويد القدس»، وهذا لا يُرْضى أى أحد من المسلمين أو المسيحيين، ولا أى أحد من العرب الذين جعلوا القدس راية لهم.

أناس كثيرون يتكلمون عنها فى الكتب، وتخادع أو لا تعرف الحقيقة التى كانت موجودة فى القدس، وهى مليئة الآن باليهود فى كل مكان من العالم يبيعون ويشترون، وليس فيها من يعين أهلها من المسلمين والمسيحيين على أن يبيع شيئاً من الرموز الإسلامية أو المسيحية، تخيل أن العربى يضطر لبيع الطقوس والعلامات والرموز اليهودية، لأن أحداً من المسلمين لا يزوره ولا يعاونه ولا يسانده.

نحن متفقون جميعاً على هذا المعنى: القدس رايتنا وحقنا، ولا يمكن التفريط فيها، وهى عاصمة الدولة الفلسطينية التى نسعى لإقامتها. القدس هى القدس فى كل الأديان، إذاً هذا محل اتفاق، وفى ظل هذا ذهبت إلى القدس، ولو أن ذهابى إلى القدس كان لسبب آخر، وهو معونة أهل القدس، ولذلك رأينا أهالى القدس وهم يخرجون فى مظاهرات لتأييدنا والهتاف لهذا الوافد الجديد.

إذاً من يدّعى أيضاً الالتفاف بعدم الذهاب هو مخطئ، ولا يعرف الواقع، ونحن نعلمه أنه ليس هناك إجماع، وأن الصوت العالى هو الذى يسود، ولذلك لما رجعت لم يستقبلنى أحد إلا مهنئاً، ومن فضل الله علىَّ أن جعلها بعد دعوة دعوتها فى يوم الجمعة بأن أذهب للقدس، وجمع لى الأقداس الثلاثة فى عام واحد، فذهبت إلى القدس، ثم إلى حضور غسل الكعبة فى شعبان، ثم ذهبت إلى الحج، ثم إلى زيارة المسجد النبوى الشريف فى المدينة المنورة.

■ لو أتيحت لفضيلتك الفرصة لزيارة القدس مرة أخرى هل ستزورها؟

- بالطبع نعم، ولو مليون مرة، وأنا متشوق لأنوارها، ولن يذهب أحد إلى القدس إلا وقد جُذب إليها، كما يُجذب إلى الحرمين الشريفين.

■ وبماذا ترد على من يقول إن هذه الزيارة وغيرها تعد اعترافاً بمشروعية الاحتلال الإسرائيلى؟

- أقول له: هل هذا حدث؟ هل أنا أعطيت مشروعية للاحتلال الإسرائيلى الذى يحتل القدس والبلاد والعباد، منذ أكثر من ستين سنة، هل هذا حدث فى ظل هذا الظلم البيّن لأبنائنا وإخواننا فى القدس.

■ ماذا عن الوحدة الوطنية والعلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر؟

- مما لاشك فيه أن الوحدة الوطنية تمثل تجربة فريدة فى تاريخ مصر، لا يستطيع أحد أن ينال منها، لأنها ممتزجة بدماء المصريين، فمصر شعب واحد ودم واحد، اختلط فى السرّاء والضرّاء، ولم يفرق ترابها فى الحروب المختلفة بين دم ودم، فكلٌّ من أبنائها المسلمين والمسيحيين قدم دمه فداء لهذا الوطن الذى يحمله فى قلبه، وحروب مصر وصد العدوان عنها كانت خير شاهد على ذلك، وبالتالى فإنه من الواجب بل من أوجب الواجبات الحفاظ على هذه الوحدة فى الوقت الراهن، حتى تستطيع مصر عبور هذه المرحلة الصعبة، وأن مبدأ المواطنة ينبغى أن يكون الميزان الذى توزن به الأمور داخل هذا الوطن، فالجميع شركاء فى خيره، وشركاء كذلك فى اقتسام التكلفة التى سندفعها جميعاً، مسلمين ومسيحيين، إن تركنا مصر للفرقة والتمزق، وبالتالى علينا تفويت الفرصة على من يريد أن يوقع بين طرفى الأمة.

■ ما الذى يجب علينا أن نفعله لعلاج مشاكل الوطن؟

- لحل كل المشاكل التى تواجه الوطن لا بد أن يترجم الانتماء الحقيقى لهذا الوطن إلى أفعال للصالح العام، وليس لمصالح أخرى، علاوة على ضرورة وجود دائرة الاتفاق بين أبناء الوطن أكبر بكثير من دائرة الاختلاف، والتركيز على ما يجمع الناس لا ما يفرقهم: العمل- وهو ما سيصل بمصر إلى بر الأمان- والبعد عن إثارة الشائعات وترديدها، بما يضر بأمن وسلامة البلاد، وعدم التركيز على الأشياء التافهة التى تضر، والتركيز على ما ينفع البلاد والعباد، والبعد عن أى نوع من أنواع الصراعات التى من شأنها أن تفت فى النسيج الوطنى، والاهتمام بالعلم والبحث العلمى، لأنهما بمثابة القاطرة التى تجر مصر إلى مصاف الدول الكبرى، فمصر مليئة بالخيرات والخبرات التى سوف تسهم بإذن الله، وبقوة، فى بنائها فى عهدها الجديد.

■ هل حققت فضيلتكم كل ما تمنيته فى دار الإفتاء؟

- لله تعالى الفضل والمنة فى كل فضل منَّ الله تعالى به علينا، فى الفترة الماضية وفقنا الله لجعل دار الإفتاء المصرية مؤسسة بمعنى كلمة مؤسسة، وفصل المؤسسة عن الأشخاص، والحمد لله الذى وفقنا لهذا، وإنه لكى يتم تحويل العمل بأى مؤسسة من العمل الإدارى إلى العمل المؤسسى لا بد من عدة أشياء، منها الاستفادة من إمكانات تلك المؤسسة بالداخل والخارج، بما يخدم الإسلام والمسلمين، وإنشاء الإدارات والأقسام المتخصصة، والتعاون مع كل المنظمات والهيئات العربية والإسلامية، ووضع الخطط المستقبلية التى تناسب المرحلة القادمة، وعدم اختزال المؤسسة فى الشخص، واستطاعت الدار أن تنقل خبراتها العلمية والإدارية، وتقدم كل أشكال الدعم لتلبية احتياجات مسلمى العالم، من خلال التعليم والتدريب والإرشاد فى المجالات الشرعية، وإنشاء حلقات وسبل للتواصل الدائم والمستمر بينها وبين المؤسسات الشرعية فى الدول الإسلامية والغربية، من أجل الحفاظ على الهوية الإسلامية والوسطية المعتدلة والتصدى لأى محاولات لنشر الأفكار غير الصحيحة.

■ ما المميزات التى ميَّز الله تعالى بها شهر رمضان عن غيره من شهور العام؟

- مَيَّزَ اللَّهُ تعالى شهر رمضان عن باقى شهور السنة الاثنى عشر، فهو شهر ينتظره المسلمون فى أنحاء الأرض على شوق ولهفة، فقال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِى كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [التوبة: 36]، ومن هذه المميزات التى أنعم الله سبحانه وتعالى بها على هذا الشهر الكريم فريضة الصيام، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، كما أنعم الله عز وجل علينا فيه بإنزال القرآن، ومن كرم الله فى هذا الشهر الطيب أيضاً: فتح أبواب الجنة وأبواب الخير والفضل، واشتماله على ليلة عظيمة ألا وهى ليلة القدر، وجاء هذا التفضيل من الله سبحانه وتعالى ليكون محلاًّ للسَّبْق ونَيل أعلى الدرجات، وتَدارُك الفائِت من الأعمال والأوقات، وعلى المسلم الكيس الفطن أن يغتنم نعمة هذا الشهر وكرم الله تعالى المتواصل فيه.

■ هل فضيلتك متفائل بمستقبل مصر؟

- نعم، أنا عندى أمل، وأمل كبير جداً، لأننى أحب هذا البلد حباً حقيقياً، ولكن أنا قلق، والقلق مشروع كقلق الأب على ابنه، فأنا قلق على البلد قلقى على حبيبى ولكن عندى أمل فسيح جداً فى تجاوز هذه الأزمة، تاريخ هذا البلد كينونة شعب، هذا البلد قادر على أن يتجاوز وأن ينطلق، وهذا واضح فى كل المصريين الذين مكنوا فى الأرض أعطوا وأعطوا بسخاء، فهذا هو مبدئى الذى لا أُغيِّره، فمصر أكبر من كل هذه الأحداث، وإن كانت مؤلمة وسوف تصل مصر إلى «المنحة».