يوميات بومباى « 5 » ما لم يتصوره يوسف شاهين

مصباح قطب الثلاثاء 24-06-2014 22:30

لأننا

فقراء نعرف قيمة المال لزبائننا».

هذا ما قاله لى أحد قيادات «تاتا موتورز» فى «بوناى»، وظنى أن الجملة ربما تفسر فعلاً جانباً من أسباب رخص أسعار المنتجات الهندية، سواء كانت دواء أو شاحنات مقارنة بمثيلاتها الغربية.

بطبيعة الحال.. فإن الأيدى العاملة رخيصة والخامات- فى الدواء أو المعادن بالذات- كلها هندية ما يساعد على خفض التكلفة، لكن يقابل ذلك أن الهند فقيرة فى مواردها من الطاقة ولذا حررت مبكراً أسعار المواد البترولية، ولم يبق إلا الديزل (السولار) الذى يتم دعمه نسبياً والسبب خشية تأثير تحريره على التضخم والأسعار، وتلك مخاوف مصرية أيضاً كما نعلم، ورغم الدعم، فإن لتر الديزل يباع بنحو 8 جنيهات مصرية، المهم أن فقر الهند سبب مهم فى جعل الشركات حريصة من ناحية على أن تقدم منتجات يمكن بيعها فى هذا المناخ، وأيضاً يمكن أن تخدم طويلا، لأن الجمهور لا يحتمل كلفة الصيانة العالية أو ثمن قطع الغيار المرتفع أو التبديل والتغيير كل شوية.

فى شوارع بومباى، بل فى بوناى المتقدمة، تسير شاحنات عمرها لا يقل عن أربعين عاماً، وكثير منها عليه رسوم تشبه بالضبط ما هو مرسوم على الشاحنات فى مصر التى تنقل الخضار والفاكهة، ولا ينقص الموجودة فى الهند إلا أن يكتب عليها «العين صابتنى ورب العرش نجانى» لتتطابق مع مثيلاتها فى مصر.

إذن.. بينما تراهن الشركات الغربية على إمكان خفض سعر المنتج النهائى– سيارة مثلا – لتنافس الهند والصين، فإنها تحرص على أن تجلد الزبون فيما يتعلق بأى قطعة غيار أو مرآة خلفية أو أمامية، وهكذا لتعوض ما فاتها من كسب، فى المقابل تسير الهند بفلسفة مختلفة هى أن الكرة الأرضية لا تزال عليها مليارات من الفقراء ومحدودى القدرة، وأن من الأفضل أن تنتج ما يناسب من يريدون منهم أن يغيروا حياتهم أو يوسعوا أعمالهم.

ولذلك فإن التوتوك اختراع أكثر من عبقرى، وهو فى الهند يعمل بالغاز وله عداد، وهو وسيلة انتقال مفضلة لأعداد كبيرة من السائحين لفولكلوريته وطبعا لرخص التكلفة، وترابط أعداد كبيرة منه أمام كل فندق انتظارا للزبائن، لكن الهند لم تتوصل بعد إلى فلسفة توكتوكية ملهمة فى السكن الذى لا يزال يمثل مشكلة وعبئا ساحقا للأسر.

فالسائق الذى نقلنى إلى بوناى يدفع 4000 روبية شهرياً مقابل حجرة واحدة صغيرة يسكنها هو وزوجته وابناه، يعنى يدفع نحو نصف دخله لسكن تعيس، ويعجب المرء لوجود أعداد لا نهائية من المساكن العشوائية الكئيبة، هكذا فى مومباى، حيث لا توجد أى لمسة للتخفيف من وطأة الكآبة، وهى إلى ذلك مظللة بالسواد الناتج عن أملاح البحر وأبخرة الصرف الصحى المفتوح.

ومع ما تقدم لم يبتكر الهنود حلا بعد لإيجاد سكن رخيص وبسيط لمثل هؤلاء، ولعلنا فى مصر نحن أنفسنا ننتظر مثل هذا الحل من الهند.

لو كان يوسف شاهين حياً لما استطاع أن ينتج (القاهرة منورة بأهلها)؛ (رجل يعاشر زوجته بحيل لأن هناك عشرة فى الحجرة) فى مومباى، لأنه يصعب تخيل كيف يتناكح البشر ويتناسلون فى مثل تلك العلب الصفيحية الخانقة. عشوائيات مصر جنة بالنسبة لتلك التى فى الهند. الصبر سيد الموقف عند الهندى وهو ينتظر معجزة من عمله أو عمل بلده أو من حظه أو من نداء يأتى عبر البحار بفرصة، وهو يجد المعجزة فى كثير من الأحوال بسبب أمانته وذكائه.

ونتابع..