العدالة الانتقالية «6» ..معضلة المصالحة

عادل ماجد الإثنين 23-06-2014 21:43

إن أخطر ما يواجه المجتمعات التى شهدت ثورات هو الانقسام الحاد بين مكوناتها، الأمر الذى يلزم معه تبنى حزمة من الآليات والإجراءات تحت مظلة العدالة الانتقالية، تعمل على إعادة الوفاق إلى المجتمع وتحقيق التعايش السلمى بين أطيافه، بما يؤدى إلى تماسك بنيان المجتمع واستقراره، فيما يطلق عليه مجازاً المصالحة الوطنية National Reconciliation.

ويرجع تعبير«المصالحة الوطنية» إلى الزعيم الفرنسى التاريخى شارل ديجول، وارتبط بشكل أساسى بضرورة تحمل مسؤولية محو إرث تجاوزات الماضى وتحقيق المصالحة مع المجتمعات محل تلك الانتهاكات. بعد ذلك استخدم مانديلا هذا المفهوم فى جنوب أفريقيا، عندما كان قابعاً فى سجنه قبل خروجه والبدء فى مسار العدالة التصالحية، لقناعته بأن المصالحة هى السبيل الوحيد لوقف إراقة المزيد من الدماء، بعيداً عن نوازع الانتقام، وما ساهم فى نجاح مبادرة مانديلا كان وجود عقيدة لدى الخصوم تتمثل فى ضرورة مواجهة انتهاكات الماضى واعتذار مرتكبيها عنها وإرضاء ضحاياها. وفى تقديرى أن أكثر ما سوف يعوق محاولات المصالحة فى مصر هو غياب ثقافة الإقرار بالخطأ والاعتذار فى الواقع المصرى، رغم أنها أهم ركائز المصالحة.

والمصالحة الوطنية الحقة تسهم فى خلق علاقة قائمة على التسامح والعدل بين الأطراف السياسية والمجتمعية بهدف تكريس مفهوم الوحدة الوطنية وطى صفحة الماضى لتحقيق التعايش السلمى بين أطياف المجتمع كافة، بما يضمن الانتقال الصحيح للديمقراطية. لكن بلوغ المصالحة الوطنية الحقيقية والشاملة هو أمر ليس بالهين، ويتطلب إلماماً تاماً بالواقع السياسى والاجتماعى والقانونى فى البلد المعنى، وإدراك الدرب الصحيح والإجراءات المطلوبة لبلوغ المصالحة الوطنية. وإن دراسة تجارب الدول الأخرى تؤكد أن الدرب الصحيح لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة يستلزم اتباع الآليات المناسبة للعدالة الانتقالية. لذلك فمن المهم أن تتم دراسة المصالحة الوطنية جنباً إلى جنب مع آليات العدالة الانتقالية الأخرى.

ومن أكثر ما أثر سلباً على مسار العدالة الانتقالية فى مصر إساءة استخدام مصطلحاتها- خاصة المصالحة الوطنية- فى غير مواضعها، وليس أدل على هذا من الدعوة التى تمت إلى عقد مؤتمر للمصالحة الوطنية شهر يوليو 2013 فى وقت كان فيه العنف مستعرا فى البلاد والدماء تسيل على طرقاتها، واختزاله فى المصالحة الوطنية مع فصيل بعينه، خاصة بعد أن حاول البعض استدعاء نماذج للعدالة الانتقالية التصالحية البحتة لتطبيقها على الوضع فى مصر، بما يسمح بإفلات كبار المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وأعمال العنف والإرهاب من العقاب، بما يناقض أبسط مبادئ العدالة الانتقالية التى تؤكد أن المصالحة الوطنية تأتى عادة فى آخر سلسلة آلياتها وإجراءاتها، وفقاً لضوابط وشروط متعارف عليها فى فقه العدالة الانتقالية، من أهمها ضرورة وقف ونبذ العنف والالتزام بالثوابت الوطنية، والتوافق المجتمعى بشأنها.

ولذلك فهناك دول مثل الجزائر لجأت إلى استخدام تعابير أكثر دقة من المصالحة مثل «الوئام المدنى»، لكى تشير إلى الآليات التى يمكن من خلالها للأطراف المتصارعة الجلوس إلى مائدة الحوار والتفاوض أو إلى حزمة الإجراءات التى يمكن من خلالها للسلطة القائمة اتخاذها للتوصل إلى اتفاقات سياسية يتم بمقتضاها وقف العنف. وتجربة الجزائر قامت فى حقيقة الأمر على فكرة منح العفو أو الإعفاء من العقاب لكل من ألقى سلاحه ونبذ العنف وأقر بما نسب إليه من وقائع، وقد تمت تلك الإجراءات بناءً على استفتاء شعبى عام.

والمصالحة الوطنية المرجوة من تطبيق آليات العدالة الانتقالية فى مصر تقوم أساساً على مسارات حقوقية وعدلية، وهى فى ذلك تختلف عن المصالحة التى تسعى لها التيارات والفصائل السياسية التى يضطلع بها أساساً ممثلو الأحزاب والقوى السياسية المختلفة. ومصطلح العدالة الانتقالية لا يعنى إطلاقاً التصالح مع مرتكبى الجرائم الجسيمة، لأن مفهوم المحاسبة- وهو إحدى أهم دعائم العدالة الانتقالية- وفقاً للاتجاهات الدولية الحديثة، يقوم على مبدأ عدم الإفلات من العقاب، ويمنع المصالحة مع مرتكبى الجرائم الجسيمة وجرائم الإرهاب. وبالتالى يعنى هذا المفهوم، تطبيقاً على الوضع فى مصر، ضرورة إجراء عملية الفرز والتصنيف، لتحديد الصالح والطالح، واستخدام آليات العدالة الانتقالية المتاحة لمحاولة رأب تصدعات المجتمع وإعادة الاستقرار إليه، عن طريق تحديد أسباب وأنماط العنف واحتوائه، وإعادة إدماج من شرد عن الطريق أو غرر به إلى أحضان المجتمع.

* نائب رئيس محكمة النقض