إننى ضعيف أمام المودَّة الصاحية، والذكاء! لابد أن أعترف بذلك، لعل كل شىء يُفهم في سياقه، فقد جاءتنى مكالمتان من مدير تحرير «المصرى اليوم» الأستاذ شارل المصرى ولم أنتبه حين تلقيتهما لأن الموبايل كان على الوضع صامتا، فقد كنت أشارك متحدثاً في البرنامج الثقافى المصاحب لبينالى الإسكندرية الدولى، ولما طلبت الأستاذ شارل عرفت أنه يدعونى للمشاركة في الاحتفال بمرور عشر سنوات على صدور «المصرى اليوم»، رحبت بالطبع، لكننى تحيرت! ماذا أكتب عن «المصرى اليوم» وأنا لم أُعايشها سوى خمسة أشهر قبل أن أباغتها بانسحابى لأتحرر من الكتابة الصحفية الدورية عموما، ملتمساً العلمى والأدبى فيما أكتب، بلا ضفاف مكانية ولا زمانية تحد من شعورى بالحرية؟!
كنت قد فرغت لتوى من محاضرتى التي كان موضوعها استكشاف قوانين تجديد مليارات الخلايا في أجسادنا بفعل الخلايا الجذعية الطبيعية البالغة، والمحاولات البشرية لمحاكاتها لأغراض علاجية وغير علاجية، وإسقاط هذه القوانين على عملية التجديد في الفنون، واختبار انطباقها على مُنجَز الفنان الألمانى السويسرى «بول كلى»، ووجدت نفسى إزاء احتفالية المصرى أستحضر شخصية المهندس صلاح دياب، مؤسس «المصرى اليوم»، وعمود خيمتها مهما بدا غير ذلك. وفى هذا الاستحضار وجدت موضوع محاضرتى في الإسكندرية عن التجديد لصيقاً بما يمكننى قوله بأكبر درجة من الصدق في هذه الاحتفالية.
قررت أن أكتب عن «المصرى اليوم» من خلال ما أعرفه عن المهندس صلاح دياب، وقد سمعت اسمه لأول مرة عام 1989 عبر برنامج إذاعى كان ضيفه الدكتور يوسف إدريس، سألت المذيعة يوسف إدريس يومها عن الشخص الذي يختاره لمصاحبته في رحلة حول العالم، فتأهبت متوقعاً أن يذكر اسمى، لكنه اختار «صلاح دياب»، وشعرت بالإحباط، واشتعلت غيرتى من صلاح دياب الذي لم أكن أعرف عنه شيئاً، لكننى استسلمت لاحتمال أن يكون إنسانا ينطوى على ميزات شخصية وثقافية لافتة تجعل بصيراً مثل يوسف إدريس يختاره دون أصحابه جميعاً ليدورا معاً حول العالم، ثم صدرت «المصرى اليوم» فعرفت شيئا عن صلاح دياب دون أن ألقاه، لكن اللقاء الأول به كان عبر ندوة للقراءة يعقدها مجموعة من الاقتصاديين ورجال الأعمال ذهبت إليها مدعواً لمناقشة كتابى القصصى «حيوانات أيامنا» عند صدوره، وفوجئت بمجموعة من المصريين ينتمون إلى النخبة أثاروا دهشتى الثقافية، فقد كانوا جادين في شحذ ثقافتهم باختيارات رفيعة لكتاب كل شهر من أفضل ما يصدر في مصر والعالم بالعربية أو الإنجليزية، وهى كتب لا يقوى على قراءتها فما بالنا بمناقشتها إلا مثقفون عميقو الثقافة، وتكرر حضورى لهذه الندوة أكثر من مرة، وتكرر تأملى لظاهرة صلاح دياب المدهشة والمنعشة والمختلفة تماما عن النمطية التي نصم بها رجال الأعمال في بلادنا. وأعتقد أن «المصرى اليوم»- برغم زحمتها- بل بزحمتها- تمثل انعكاسا لمكونات هذه الشخصية الذكية للغاية.
الرجل الذي يتكلم بسرعة وبجمل باترة تحمل أفكارا واضحة وصريحة مهما كانت صادمة، ما إن تقع في مرمى حديثه حتى تكون هدفا لقصف ذهنى بزخات من الأفكار والحجج لا تملك إزاءها إلا الانتباه وتقليب الأمور على وجوهها العديدة المحتملة، وتعدد الاحتمالات في أمور شتى هي الحقيقة الفكرية التي يمكنك أن تخرج بها من أي حديث مع صلاح دياب، وأنا مثلا برغم انتمائى لأفكار مضادة لاقتصاد السوق الرأسمالى وحذرى من رجال الأعمال، إلا أننى خلصت من القليل الذي قصفنى به الرجل، إلى أن هناك اجتهادات مهمة لدى هذا النوع من الرأسماليين المُتحضرين- ويلفت نظرى منهم سميح ساويروس بشكل خاص- قطعا تفيد التنمية الوطنية وتصب في صالح المجتمع، وهى بسيطة وخلاقة للغاية، ومثال ذلك «أزمات مياه الرى»، ومن المعروف أن صلاح دياب معنى على رأس نشاطاته الاقتصادية بالاستثمار في الزراعة، وحدث أن منطقة يزرعها ظلت تعانى تقطُّع وصول تلك المياه إلى أرضه كما غيرها، فهى تأتى وتغيب مما لا يستقيم معه أي نمو واعد لأى محاصيل أو ثمار، فما كان منه إلا أن صنع أحواضا جمَّع فيها حصته من تلك المياه، وراح يسحب منها بتقنين وفى نظام رى حديث لا هدر فيه ولا إغراق. أليست هذه فكرة لامعة وبسيطة وعملية يمكن أن تخرج بنا من وادى الصراخ الذي لا ينقطع عن شح مياه لرى حقولنا التي تختنق من التغريق أو تتشقق من فرط العطش؟
إننى أظن أن صلاح دياب هو كاتب عمود «نيوتن» وهو مما أحرص على قراءته في «المصرى اليوم»، وظنى مؤسّس على المضاهاة بين طريقة صلاح دياب في الكلام والتفكير وتقطيع وتسارع الجمل في الكتابة، إضافة للمحتوى الدال عليه، والذى كثيرا ما أرانى لست معه، وإن كنت أراه يدفعنى دائما إلى التفكير في غير ما أعتقد، وهذا هو قلب أي عملية تتوخى التجديد، حيث «التجديد شرط حياة وحيوية»، هذه العبارة كانت العنوان الرئيسى في محاضرتى الافتتاحية في البرنامج الثقافى لبينالى الإسكندرية، وأنا أستدعيها الآن في معرض الحديث عن «المصرى اليوم» من خلال قراءتى لبعض ملامح مؤسسها، فلا شك أن هذه الجريدة مع غيرها من الصحف الخاصة، أو المستقلة عن الصحافة الحكومية، كانت أداة هدم للراكد ورافعة بناء للجديد، وآن أوان أن تنتبه إلى تواصل تجددها، وفى هذا الصدد يحضرنى خاطر طالما راودنى وأنا أطالع عنوان زاوية من أظنه صلاح دياب «نيوتن»، فنيوتن كان الثورة الأولى الكبرى في مسار العلم الحديث، لكن أينشتاين جاء ثورة على الثورة، فليست هناك ثوابت نهائية لرصد الأمور، ولا قوانين قطعية في الفيزياء. هذه خاطرة تخطر لى بشأن «المصرى اليوم» في عيدها العاشر، عبر تقليب في الأفكار تحض عليه حيوية صلاح دياب نفسه، مؤسس هذه الجريدة التي نحتفل بعيدها العاشر. كل عام وهما بخير.