مونديال ألمانيا 1974.. القَيْصَر يحكُم وهولندا تَعيش

كتب: محمد المصري الثلاثاء 10-06-2014 17:54

«إذا سألت ألمانيا عن ماذا تعني ألمانيا في القرن العشرين.. ستكون إجابته أنها فرانز بيكنباور وليس أدولف هِتلر».. الأديب والكاتب الألماني جنتر جراس

في مًنتصف السبعينات كان العالم قد نَسَى فظائع الحرب العالمية الثانية، كرة القدم كان لها دوراً فاعلاً وحقيقياً في ذلك، وصورة «القَيْصَر» فرانز بيكنباور وهو يَلعب مباراة إيطاليا في نِصف نهائي كأس عالم 1970 بذراعٍ مَكسورة ومُعلَّقَة فوق عنقه تركت أثراً لا يُمكن وَصفه بالنسبةِ للناس، كان لاعب الكُرة الذي يُبرز قِيماً مختلفة لأمته عن تلك المرتبطة بمذابِح ومَحارق وآلاف القَتلى، وبعد فوز هذا المُنتخب ببطولة أوروبا عام 1972.. كان المزاج العام في العالم مُهيئاً ومتسامحاً مع مَنح الألمان فرصة تَنظيم كأس العالم للمرةِ الأولى.

عَرِفَت البطولة في هذا الوَقت تغيير شَكل الكأس بعد احتفاظ البرازيل بنسخة «جول ريمييه» إلى الأبد عام 1970، وشَهَدت نِظاماً مُختلفاً للتأهُّل، حيث قُسمت المنتخبات على أربع مَجموعات، بصعودِ الأول والثاني، ليتم تقسيم الفرق الثمانية على مَجموعتين، وأول كل مجموعة يتأهل مباشرةً للمباراة النهائية.

عَرَفت البطولة استقرار كرة أديداس بشكلٍ رسمي، لِعب ألمانيا الشرقية والغربية في مجموعةٍ واحدة، جنون الجماهير المُعتزّة بنفسها في المُدرَّجات، عَرِفت المشاركة الوحيدة لمنتخبي زائير وهايتي، عَرِفَت برازيل تائهة بين جيلين عَظيمين، ومُنتخب بولندي تاريخي لم يتكرّر، ولكن أبرز ما عرفه العالم في تلك البطولة كان لقاءهم الأول مع السَّحرة ذوي الملابس البيضاء أو البرتقالية.. «البرتقالة الآلية» كما سمُّوا.. كرة القدم التي لم يُرَ مَثيلاً مُشابهاً لها حتى مع «بيليه» و«جارينشا».. لاعبو المدرب العَظيم وصاحب المفهوم الأول للكرة الشاملة رينوس ميتشلز.. ورفاق يوهان كرويف في ذروة مسيرتهم، عَرِف العالم المُنتخب الهولندي، دون أن ينساه بعد ذلك.

11 لاعب يتحرَّكون ككتلةٍ واحدة، هجومٌ شامِل من كل الأفراد، الضَّغْط العالي والتناقل الدَّقيق للكرة، مع مهارات استثنائية للأغلبية، و«كرويف» أمام كل هذا، «مايسترو»، وليس أقل» يَقود مَنظومة جمالية للفريق، النّسخة المُبكرة جداً جداً من برشلونة بيب جوادريولا في 2009 كان قد ابتدعها الهولنديون من رينوس ميتشلز، الذي خَلقَ فلسفته الصلبة في سنواتٍ طَويلة مع أياكس، كساحرٍ يتدرَّب على خِدعته الأكبر، قبل أن يُبهر بها الجَميع في ذلك الصيف البعيد من عام 1974.

تأهلت هولندا بسهولة من المَجموعة الثالثة، بصحبةِ السويد، لتجمعها المَجموعة الجديدة بألمانيا الشرقية، أول المَجموعة الأولى، والبرازيل، ثاني المَجموعة الثانية، والأرجنتين، ثاني المجموعة الرابعة.

وفي المجموعةِ النهائية الثانية كان هناك ألمانيا الغربية، منظمة البطولة وثاني المَجموعة، يوجوسلافيا أول المَجموعة الثانية، السويد ثاني المجموعة الثالثة، وبولندا، مفاجأة البطولة وأول المَجموعة الرابعة.

لَم تشهد مرحلة المجموعات شيئاً للذكرى باستثناءِ السحر الهولندي، وسَطوة القَيصر «بيكنباور» على كل شيء في مُنتخبِ بلاده، متجاوزاً كونه (قائد) داخل الملعب، لكونه أيضاً (مدرباً) خارجه، وهو ما اتفق الجَميع عليه، وسردوه في السر والعَلَن، خسارة ألمانيا الغربية مباراتها أمام ألمانيا الشرقية، بأداءٍ هَزيل وغير مُطَمئن أمام جماهير مُتَعَطّشة للفوز، جعلت من «بيكنباور» أقرب لمساعدٍ للمدرب العظيم هيلموت شون، وعلى أرض المَلعب لم يكن يَسمح بأي هَفوة من أي فرد، ويَجعل من فريقه «آلات» لا تهدأ ولا تُخطئ.

مَرحلة المجموعات النهائية كانت تاريخية بالفعل، وحملت نهائيين مُبكرين، هولندا والبرازيل فازوا بمبارتيهما أمام ألمانيا الشرقية والأرجنتين، حَصدَ كل منهم 4 نقاط، مع تفوق هولندا الكبير في الأهداف، بعد أن فازت على ألمانيا الشرقية بثنائية، وعلى الأرجنتين برباعيَّة، لذلك فإن اللقاء الأخير بينهم في المَجموعة كان مباراة نهائي مُبكّرة قليلاً، الفائز فيها سيتأهل فعلاً للمنافسةِ على الكأس، ومنذ البداية ظَهَر تفوّق الهولنديين، الذين كان يكفيهم التعادل فقط، ولكن كتيبة: «كرويف»، يوهان نيسكينس، جوني ريب، روب رينسنبريك ورود كرول، تسيّدت المباراة للنهاية، وفازت بثنائيةٍ جديدة.

الحصاد في النهائي كان أقرب للطوفان، هولندا أحرزت 14 هدفاً، ودخل مرماها هدفاً واحداً فقط أحرزه «كرول» بالخطأ، بدا فريقاً مُتكاملاً وقابلاً لتسيُّد العالم بعد ذلك لوقتٍ طويل.

في المُقابل لم تقل مباريات المجموعة النهائية الثانية عن ذلك، حتى لو ظهرت بتقاليدٍ أوروبية أكثر صرامة، ألمانيا الغربية وبولندا فازوا في مبارتيهما أمام السويد ويوجوسلافيا، وفي المباراة الثالثة بدا كنهائي مُبكرٍ آخر، حسمته ألمانيا بهدفِ الأسطورة جيرد مولر قبل رُبع ساعة فقط في الختامِ، وأظهر بيكنباور ورفاقه بطولة حقيقية في احتواءِ منتخب بولندي لَعِبَ للتاريخ.

في المباراة النهائيةِ حَضَر 75 ألف مُتفرّج إلى أستاد ميونيخ الأوليمبي، وهم يُحاربون التوقعات والمنطق، والذي يضع هولندا كمرشحٍ فوق العادة.

لم يَستطع الألمان أن يَلْمَس الكرة طوال دقيقة ونصف، والتي انتهيتا بضربةِ جزاء لـ«كرويف»، وضعها «نيسكينس» في مرمى الحارس سيب ماير، وأشد المُشجعين حماساً لم يَستطع مُغالبة الخوف من فَضيحة.

وحده القَيْصَر استطاعَ لم الجَميع حَوله، «لم يَكن أيُّ منا يستطيع الرَّمش لأن بيكنباور كان يراقبه»، كما يقول الظهير بول بريتنير، ورغم هذا الكَم من المهارات والجَماعية في المنتخب الهولندي، استطاع القائد ورفاقه أن يَمنعوهم من التنفسِ.

والمُدْهِش فعلاً في النهاية ليس أن ألمانيا فازت، بضربة جزاء أحرزها «بريتنير»، ثم لَدغة بَسيطة وهادئة من الأسطورة «مولر»، ولكن المُدهش كان في فوزِ ألمانيا عن استحقاقٍ، حيث احتلوا أغلب أرجاء المَلعب، وظلوا يُناضلون على كل كرة أمام «كرويف» أو «نيسكينس» أو « رينسنبريك»، ورغم أن البرتقالي كان لون الناس المُفضَّل في هذا الصيف، وتمنى الجَميع فوز هذا المنتخب بكأسِ العالم، إلا أن الألمان، للمرةِ الثانية بعد مُعجزة «بيرن» عام 1954، استطاعوا نَيل احترام الجميع، وإخراج الفريق الأفضل من أجل الفوز بكأسٍ مستحقة.

تُوّجت ألمانيا بكأسِ العالم الثانية في تاريخها، اعتبر القيصر «بيكنباور» هو المَثَل الأهم للقائِد، «مولر» أصبح الهدّاف التاريخي للألمان، وحَفَر المدرب الأسطوري «هيلموت شون» اسمه كواحدٍ من أبرز أسماء البطولة في تاريخها، ولكن فوقَ كُل هذا بَقَت هولندا، حَفَظ الناس أسماء كرويف ورفاقه، وخُلِدَ بصورةٍ مُختلفة.. كواحدٍ من أعظمِ مُنتخبين كرة لم يَفُوزوا بكأسِ العالم.