كان الألمان بحاجة أن يشعروا من جديد بأن لهم الحق في الوجود، جرائم «هتلر» في الحرب العالمية الثانية، النبذ الدولي للأمّة كاملةً، والغياب العقابي عن مونديال البرازيل عام 1950 كان له أثر مؤلم في نفوسِهم، لم يكونوا من المرشَّحين للفوزِ ببطولة كأس العالم التي أقيمت بعدها في سويسرا عام 1954، خصوصاً بعد بدايتهم الكارثية في البطولة بالخسارة على يد المجر 8-3.
المجر حينها كان الفريق الذي لا يُقهر، ليس وصفاً مجازياً ولكنه توصيف للحقيقة، فقد ظل هذا المنتخب لمدة 4 سنوات دون خسارة، وبجيلٍ ضم «بوشكاش»، «كوسيس»، «لانتوس» و«هيديكوتي» كانت المجر هي المرشح الوحيد للفوزِ بالبطولة، تأكد العالم من ذلك حين فازوا على إنجلترا 7-1 في استاد «ويمبلي» التاريخي قبل المونديال ببضعة أسابيع، «ما من فريق يستطيع إيقاف هانجري» كما قالت الصحف الإنجليزية حينها.
أقيمت البطولة في سويسرا، البلد الهادئة التي تحاول إيجاد مكان لنفسها على خريطة الكرة، وبحضورِ 16 فريق في أول كأس عالم يُقام بالشكل الطبيعي الذي نعرفه اليوم، حيث تقسم الفرق لمجموعاتٍ، ويصعد أول ثواني للدور القادم في مباريات خروج المغلوب، كان هناك 11 فريقاً من أوروبا، متنافسي النهائي الأخير البرازيل وأورجواي ومعهم المكسيك أتوا من الأمريكيتين، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية وتركيا.
الأمور سارت في البدايةِ حسب المتوقع، مشوار المجر كان شديد السهولة، الفوز على كوريا 9-0 ثم ألمانيا 8-3 كان مؤشراً حقيقياً لما ينوي رفاق «بوشكاش» تحقيقه.
النديَّة الحقيقية بدأت مع منتخبات أمريكا اللاتينية، حين لعبوا مع البرازيل في الدور الثاني، في واحدةٍ من أعنف مباريات كرة القدم في التاريخ، والتي سُمّيت بمعركة «بيرن»، والتي انتهت بصعوبة 4-2 لصالح المنتخب الأوروبي، بعد طرد 3 لاعبين، إعطاء 42 فاول، بالإضافة لعددٍ كبير من الإصابات والإرهاق البدني وطلب البوليس في النهاية لفضّ شجار الملعب الذي اندلع بين الفريقين! وكان الشيء الوحيد الباقي بصورةٍ حسنة من المباراة هو هدف اللاعب البرازيلي جويلنهو، الذي يعتبر من أعظم أهداف الكأس عبر تاريخه.
الدور قبل النهائي لم يكن أسهل، على العكس، الأورجوانيين أتوا من أجل الحفاظِ على لقبهم، ورغم تقدّم المجر 2-0 حتى الدقيقة 75، إلا أن أبطال 1930 و1950 عادوا في النتيجة بهدفين للاعب جوان هوهبيرج في الدقيقتين 76 و86، لتتجه المباراة لوقتٍ إضافي ويتعملق الأسطورة «كوسيس»، هداف البطولة اللاحق بـ11 هدف، ويسجل هدفين متتاليين في الدقائق الـ10 الأخيرة، لتنتصر المَجَر وتصل للمباراة النهائية.
وكل شيء كان يدور فعلاً حول المَجَر، والجميع يعتبر تتويجها مسألة وقت، خصوصاً بعد أن فاز المنتخب الألماني بمبارتين ضد يوجوسلافيا 2-0 ثم النمسا 6-1، واعتقد الجميع أن نُزهة المجر في مباراة 8-3 الأولى ستتكرر حتماً، أو على الأقل سيكون الفوز سهلاً.
تلك الظنون تأكدت بعد تقدم المجر بهدفين في أول 8 دقائق، ظهر الألمان يَرتعدون في استاد «وانكدورف» بمدينة «بيرن» السويسرية، وبدت نتيجة الـ8 ليست ببعيدة، وحده هدف لاعب الوسط ماكس مارلوك في الدقيقة الـ10 أعاد الثقة لهم في أن شيئاً غير الفضيحة يمكن أن يحدث، ومع هدف ثانٍ للجناح هيلميوت راهن عاد الألمان فعلاً للمباراة، وأصبحوا فريقاً ضد فريق، وليس فريسة أمام وحش لا يُقهر.
ورغم التفوُّق الواضح لرفاق «بوشكاش»، كرتين في القائمين، وكرة يخرجها «ليبرتش» من على خطّ المرمى، إلا أن الألمان ظلُّوا في المباراة، ثابتين على أرضِ الملعب، حتى تلك اللحظة، قبل النهاية بست دقائق، حين استلم «راهن» الكرة على حدودِ منطقة الجزاء، قام بترقيص «لانتوس» ووضع الكرة بيسراه على يمين الحارس المجري «غروشكس»، و«للحظاتٍ، بدا أن العالم قد توقَّف» بحسبِ «راهن».
صرخة المعلق الرياضي الألماني «هيربيرت زيميرمان»: «توووووووور تووووووووووور توووووور» كانت واحدة من اللحظاتِ الخالدة في تاريخِ كرة القدم، استخدمت كإشارةٍ للراديو الوطني، واستخدمت في الأفلام، وأُرخّت في الكتب باعتبارها رمزاً للانبعاثِ الوطني الذي شعر به كل ألماني في تلك اللحظة.
ورغم محاولة المجر العودة في الدقائق الست المتبقية، إلا أن الكأس كانت ألمانية في النهاية، وصدرت الصحف في اليوم التالي بإشارةٍ كبرى: «ارفعوا رؤوسكم فأنتم ألمان»، وكانت المرة الأولى التي يشعرون فيها بالفخرِ منذ بداية الحرب.