كان عصراً من أعظم العصور وأسوأها، كان عصراً للحكمة والحماقة معاً، للإيمان والإلحاد، للنور والظلام، يجمع بين ربيع الأمل وشتاء اليأس، كان كل شيء مباحاً ومتاحاً، ولم يكن هناك شيء على الإطلاق، كنا جميعا نتجه إلى الجنة مباشر، وفي نفس العصر كنا نتجه إلى الجحيم رأساً.
إنه في كل الأحوال يشبه تماماً عصرنا هذا (...) السادة المهيمنون على مخازن الدولة وطعام الشعب، واثقون تماماً أن كل شيء في هذه البلاد سوف يظل على حاله أبد الدهر.
لا أعرف عن أي عصر كان يتحدث تشارلز ديكنز في مستهل روايته الشهيرة «قصة مدينتين»، ولا أعرف لماذا استخدم «كان»، والزمن الماضي، مع أن توصيفه ينطبق أكثر ما يكون على عصرنا هذا، كما انطبق من قبل على «عصره ذلك»، الذي انتهى باندلاع الثورة الفرنسية!
هل هذه المتناقضات العجيبة والاحتمالات المفتوحة على طرفيها من العلامات الواضحة التي تبشر باقتراب الثورات؟
أنا من فريق «نعم» في الإجابة على هذا السؤال.
ويمكنني أن أذهب لمسافة أبعد من ديكنز، وأقول إن الثورة عندما تأتي لا تستطيع بمبادئها الإنسانية وحدها أن تردم الهوة بين هذه المتناقضات أو تطفئ الصراع بين الأطراف أو تغلق الطريق نحو الجحيم وتفسح الطريق نحو النعيم، بالعكس، فهي تتحول إلى لهب يؤجج الصراع ويرفع درجة الغليان داخل المجتمع وفي محيطه أيضا، وأتجاسر فأقول إن الثورة غالباً ما تأتي وفي ذيلها الحرب.
هل هذا نذير سوء باقترابنا بعد ثورتين من «حرب ما»؟
يذكر أصدقائي أنني كتبت ذات مرة مؤكداً أن المشير عبدالفتاح السيسي «لن يكون رئيساً لمصر»، وكنت أستند في ذلك لمدى انضباط المؤسسة العسكرية، والتزام رجالها بمنظومة الأوامر والتعليمات، فالمؤسسة أعلنت عدم خوضها في السياسة، وأنها لن تسمح بوضع جيش مصر محل شبهات كطامع في السلطة، وهذه مبادئ معلنة من الصعب كسرها والخروج عنها، إلا إذا كانت هناك ضرورة أكثر أهمية من الانضباط والالتزام، وهذه الضرورة في الحياة العسكرية ليست إلا الحرب!
أنا شخصياً حاولت أن أطرد شبح هذا السيناريو من رأسي، لكنني حتى الآن لست مقتنعاً، بأهمية أي مبررات وتحديات داخلية يمكن أن تؤدي إلى تراجع المؤسسة العسكرية عن تعهدها، ولدي ترجيحات قوية بوجود أخطار كبرى تهدد مصر من الخارج، وليس من جماعات العنف الداخلية فقط.
هذه الترجيحات لا ترقى إلى مستوى المعلومات، لكنها مجرد قراءة سياسية وتاريخية، تساعدنا على فهم أفضل للظرف الذي تمر به مصر، فالقراءة السياسية تقول إن الجيش بدا زاهداً في السلطة مع اندلاع ثورة يناير، فقد تحرك بحسابات دقيقة للتضامن مع الثورة في حدود إنهاء ملف التوريث، والتخلص تماماً من سيناريو جمال مبارك و«شلته»، ولم يتحرك من منطلق ثوري شامل للقضاء على النظام بمعناه الواسع في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وهذا ليس سيئاً، بل يعبر عن تطور التكوين العقائدي للجيش كمؤسسة احترافية بعيدة عن السياسة في شكلها المباشر، وإن ظل دوره فاعلا في الخلفية كحارس لشرعية الشعب، وللأمن القومي، ولذلك أيد المجلس العسكري سيناريو رئيس مدني توافقي لا ينتمي للجيش ولا لجماعات الإسلام السياسي، وأظهر موافقة على تولية أسماء من نوع منصور حسن أو عمرو موسى، لكن انقلاب الإخوان على شركاء الميدان وانتقالهم من المشاركة إلى المغالبة وسعيهم للاستئثار بالسلطة، قلب الطاولة على الجميع وورط الجيش كطرف مباشر في الصراع، فخسر الكثير من صورته، ومن رصيده الشعبي، وانقلب هتاف «إيد واحدة» إلى «يسقط»، وخرج قادة المجلس العسكري في مؤتمر صحفي علني يلوحون بإعادة سيناريو 54، لكن الجماعة واصلت التصعيد، ولم يكن أمام الجيش إلا أن يكمل صراعاً فرض عليه، وبحكم تكوينه النفسي والعقائدي صار من حقه أن يخطط لنصر يستعيد به وهج الصورة، ويزيل آثار العدوان، وقد تحقق ذلك الهدف بنجاح خلال شهري يونيو ويوليو، ووصلت المؤسسة إلى ذرة شعبيتها في مظاهرات التفويض في 26 يوليو 2013، فما الذي يدعو السيسي للمغارمة بهذا النجاح، والخوض في مستنقع السياسة الآسن، وتحمل تبعات اقتصاد منهار، وتفسخ اجتماعي غير مسبوق، في ظل تطلعات عظيمة لشارع يأمل أكثر مما يعمل؟
في تقديري أن تصدر السيسي للمشهد السياسي بعد 3 يوليو، فتح أمامه كافة الملفات، وزادت تدريجيا اتصالاته مع أطراف خارجية، رأت فيه الحليف القوي لبناء علاقات ومصالح مضمونة، دون إهدار الوقت في انتظار التعرف على اسم وسياسات أي حاكم جديد، وتكشفت بوضوح خريطة التحديات، ومناجم التمويل، وربما مناطق الخطر التي تهدد الوضع الاستراتيجي لمصر، ومن المرجح أن شبح الحرب لم يكن بعيداً عن هذه التحديات، فكان من الضروري التحسب لهذا الاحتمال بتقليص دورة اتخاذ القرارات المصيرية، وتفضيل صيغة الرئيس ذي الثقافة العسكرية.
ونأتي هنا للقراءة التاريخية التي تدعم فرضية نشوب حروب بعد كثير من الثورات في العالم، فالثورة الفرنسية أعقبتها (بعد 3 سنوات) حروب مع النمسا والمجر وروسيا وإسبانيا وإنجلترا، وبعد الثورة المكسيكية عام 1910 تعرضت البلاد لتدخل عسكري أمريكي، وبعد الثورة البلشفية تورطت روسيا في الحرب العالمية الأولى وحرب مع بولندا، ودخلت تركيا في حرب مع اليونان بعد ثورة 1919، وبعد عام واحد من الثورة الصينية عام 1949وقعت الحرب الكورية، ونزاعات مسلحة مع سكان التبت، وفي مصر وقع العدوان الثلاثي بعد أربع سنوات فقط من ثورة يوليو 52، وتعرضت كوبا لمعركة خليج الخنازير بعد أقل من عامين على إطاحة نظام باتيستا، وخاضت إثيوبيا حرباً مع الصومال بعد 4 سنوات على ثورة 1974، كما تعرضت إيران لحرب دامية مع العراق طيلة الثمانينيات بعد عام واحد من الثورة الإسلامية في نهاية السبعينيات، والأمثلة كثيرة على مدى التاريخ.
فهل ما يحدث في ليبيا والسودان وسوريا وسيناء هو نواة حرب تجهز لها قوى خفية ضد مصر؟
السؤال يطرح احتمالاً لا نريده، لكن ما لا نريده يجب أن ننتبه له، ونستعد لمنعه أو مواجهته بحسم حال حدوثه.
فهل يحدثنا قائد الضرورة بشفافية أكثر ويطمئننا على المستقبل في أول خطاب رسمي له عقب تسلمه السلطة رسمياً؟
أتمنى.
tamahi@hotmail.com