دييجو سيميوني.. كيف أحيا أتلتيكو مدريد كمعجزةٍ للمسيح؟ (تحليل)

كتب: محمد المصري السبت 24-05-2014 03:22

(1)

«أمي كانت دائماً تقول لي أن المرض الأكبر في الحياة هو الأمل، مع الوقت.. تأكدتُ أنه لا شفاء منه، إنه يُطاردنا، يستحوذ علينا، ولا نستطيع إلا أن نذهب من أجله».. دييجو سيميوني.

«قال هذا وتفل في الأرض، وصنع من التفلِ طيناً، وطلى بالطين عينيّ الأعمى، ثم قال له "اذهب واغتسل"، فمضى.. واغتسل.. وأتى بصيراً».. الكتاب المُقدّس.

(2)

يرتدي «سيميوني» بذلة سوداء في كُل المباريات، ويداري تحت قميصه صليباً صغيراً يحتفظ به منذ سنوات، يذهب إلى الكنيسة كل أسبوع، وهو يؤمن أن المُعجزاتِ مُحتملة، لذلك.. فقد قرَّر صُنع واحدة!

(3)

هناك شيء ما فاتِن في كرة القدم، وهي أنها لُعبة تؤمن بالأرقام والتكتيكات والخطط والفوارق الفردية، ولكنها قبل كل شيء تَتعلَّق بالحماسة، هؤلاء في المدرجات، والـ11 بأرضِ المَلعب، الرُّوح التي تَدُب في شيءٍ، فتجعله حياً.

وهُناكَ الكثير من الأشياء التي يُمكن أن تقال عن مُعجزة «سيميوني» في الثلاث سنوات الماضية مع أتلتيكو مدريد، وكيف حوَّله من فريقٍ يقبع في منتصفِ جدول الليجا إلى بطل أسبانيا، ومن المنافسة المُعتادة في الدوري الأوروبي لنهائي دوري الأبطال، ولكن أي شيء يجب أن يبدأ بجعله الفريق حياً.

(4)

أعطوه الفريق عام 2011، بدون دييجو فورلان، بدون سيرجيو أجويرو، بدون خوسيه رياس أو ديفيد دي خيا، جميعهم خرجوا في الصيفِ الذي أتى فيه «سيميوني».

أول مُهمَّة حقيقية لـ«سيميوني» كانت خَلق هَيكل أساسي جديد للفريق، هيكل صَلب يُمكن الاعتماد عليه:
- استدعى الحارس الشاب «تيبو كورتوا»، ذو التاسعة عشر فقط من العُمر، في إعارةٍ طَويلة الأمد من «تشيلسي»، وتحمَّل بدايته المترنَّحة، استقباله لـ27 هدفاً في أول 16 مباراة لَعبها، لأنه آمن بالقيمة الاستثنائية للبلجيكي، مُصرحاً وقتها بما اعتبره البعض جنوناً وهو أن «كورتوا سيكون أفضل لأتلتيكو من دي خيا»!

- الجانب الأهم في كل شيء خَلق خَط دفاع بهذا القدر من التجانس الاستثنائي، عن طريق أفراد ليسوا خارقين بصورةٍ فردية، ولكنهم يتحرَّكون معاً كجماعة، أعادَ الثقة لدييجو جودين بعد المستوى المتوسط الذي قدَّمه قبل قدوم «سيميوني»، جعلَ فيليبي لويس هو الظهير الأيسر الأساسي رغم عدم رضا الجمهور، استقدم خوان فرون وأعاد اكتشافه في مركز الظهير الأيمن، واستقدم أيضاً خوا ميراندا كقلبِ دفاع ثانٍ بدلاً من الكولومبي لويس بيريا، وبدءً من موسم 2011-2012 كان الرباعي «لويس، جودين، ميراندا، فرون» هم أفراد الدفاع الأساسي للفريق.

- في مُنتصف المَلعب كان أهم ما فعله ربما هو الاعتماد بصورةٍ أساسية على موهبةٍ شابة كبيرة مثل «كوكي»، صعَّده ولَعب به في الفريقِ الأول وهو لم يزل في الـ20 من عمره. إلى جانب أدوار محددة للقائِد جابي، إعطاء الثقة لماريو سواريز، استبقاء راؤول جارسيا، استقدام دييجو ريباس، والأهم أردا توران، مع التداخل الكبير والمُهم على أرضِ الملعب بين مهام الجناح ووسط الملعب، أين يَلعب «كوكي»؟ كيف يتبادل أدواره مع «توران»؟ راؤول جارسيا لاعب وسط ثالث أم يميل كجناحٍ ناحية اليمين؟ «سيميوني» في الحقيقة صنع حِفنة مُدهشة من لاعبي الوسط القادرين على التعامل بمرونة مع أدوار متعددة، ومن خلفهم جميعاً يتواجد «جابي» دائماً كلاعب ارتكاز ذو صلابة دفاعية واضحة.

- هجوماً كان الأمر الأشهر، ذهب فورلان وأجويرو وجاء راماديل فالكاو، رحل «فالكاو» ليَمنح «سيميوني» دييجو كوستا فرصة مُدهشة ليصبح أحد أفضل مهاجمي العالم، سيرحل «كوستا» وسيتعامل «سيميوني» لإيجاد البديل.
وعوضاً عن ذلك كان هناك الاستقدام الذكي للاعب برشلونة السابق ديفيد فيا، واستغلاله بالشكل الأمثل رغم وصوله للثانية والثلاثين من عمره، وتعرضه للعديد من الإصابات.

مُهمة «سيميوني» الأولى كانت خلق فريق، وحتى في موسمه الأول، الذي حقق فيه 12 فوز متتاليياً في الدوري الأوروبي، وحصد البطولة في النهاية أمام معلمه مارسيلو بيلسا مدرب أتلتيك بلباو في هذا الوقت، بدا واضحاً أن هذا الفريق تكوَّن بالفعل، وأن هناك المزيد يُمكن أن يتحقق.

(5)

الخطوة الثانية لـ«سيميوني» في أتلتيكو كانت منحهم شيئًا من نَفسه.

أشهر جملة صحفية قِيلَت عن هذا الفريق هو أن «هناك دائماً 11 سيميوني» في المَلعب، أحد أهم نماذج اللعب الحاد والخَشِن بين منتصفي التسعينات والألفية، كل مرة انقض فيها على قدم راؤول جونزاليس أو لويس فيجو أو دافور سوكر –لاعبو الريال وبرشلونة وسيلفيا في الموسم الذي فاز فيه «سيميوني» بالدوري، كلاعب، مع أتلتيكو عام 1996-، كل «فاول» تعطيلي في منتصف الملعب أخذ على أثره إنذاراً، المُبالغة في الوقوع للتسبب في طرد ديفيد بيكهام في فرنسا 98، إيطاليا كانت مكاناً مُناسباً لاستيعاب شُحنة الغضب والحَماسة التي مَيّزته في الملاعب، وكان هذا هو ما طلب من لاعبيه أن يكونوه.

كرة أتلتيكو مدريد ليست كرة جمالية، كرة خَشِنَة، وحادة، وواقعية للغاية، كرة قدم غاضبة، وكرة قدم حقيقية، «سيميوني» مَنَحَ كل لاعباً من الـ11 في المَلعب جانباً من تلك الرُّوح التي مَيَّزته هو نفسه رفقة الأرجنتين وأتلتيكو ولازيو وإنتر، لا تعطي لخصمك الفرصة لكي تتنفس، «كرة القدم لعبة الرجال لذلك فالخشونة جزءً منها»، مبادئ الحواري الأرجنتينة التي لعب فيها حتى الخامسة عشرة من عُمره كانت جاهزة لتملأ جنبات الكالديرون، «لا مانع أن تشعر بالأسف إذا دخلت بحدة على قدمي خصمك، ولكن لا تمر أبداً بمرحلة الندم»، والحصاد كان «أشرس» فريق في أوروبا بعد 3 سنوات من قيادة «سيميوني».


(6)

الخطوة الثالثة كانت تحدث على مَهل، أن يتحرَّك الفريق، فعلاً، ككتلةٍ واحدة، أغلب لاعبو أتلتيكو الذين سيذهبون إلى لَشبونة أتوا إلى النادي عام 2011 فقط، مع قدوم «سيميوني»، واحتفظ بهم معاً منذ ذلك الوقت، يَقبل بذهابِ (النجم)، كي يُحافظ على (جماعية) الفريق، كي يبقي تلك الروح بأنهم «جسد واحد متصل ببعضه» على حسبِ تعبيره.

«لست ضد النجوم، ولكني لا أحب تلك الفكرة كثيراً، كرة القدم قائمة على 11 لاعباً في النهاية، يجب أن يتحرَّكوا ككتلةٍ واحدة، هذا هو الأمر المُهم».

لذلك فإن خروج أردا توران وإصابة دييجو كوستا في المباراة الأخيرة ضد برشلونة في الليجا لم تمنع «سيميوني» من التتويج مع فريقه في النهاية، لأن (الفريق) هو المهم وليس (لاعباً) بمفرده.

وبثلاثِ سنوات سوياً، أصبح من النادر أن تحدث هَفوة من فريق يتحرّك كجسدٍ صَلب.


(7)

الخطوة الرابعة كانت قدرة «سيميوني» الرائعة على رَفع الضغوطِ من على كاهلِ فريقه طوال الوَقت.

في الموسمِ الماضي، احتل «أتلتيكو مدريد» المركز الثاني لأوقاتٍ طويلة، تصريحات «سيميوني» كلها كانت تدور عن الفوارق الكبيرة بين فريقه وناديين كريال مدريد وبرشلونة، مُفضلاً أن يخوض معركة الحديث عن تقسيم حقوق البث بين الأندية الأسبانية، بدلاً من أي حَشد نفسي غير واقعي قد يُحدث ضرراً مضاعفاً عند سقوط الفريق.

حتى في هذا الموسم، الذي نافس فيه أتلتيكو على الدوري منذ الجولة الأولى، ولعب مع أندية بقوة وعراقة ميلان، برشلونة وتشيلسي، دون أن يخسر أي مباراة في دوري أبطال أوروبا، ورغم ذلك فلم يحدث أن صرَّح «سيميوني» بأن هدفه المنافسة على كليهما، يُشير دائماً إلى الفوارق والصعوبات، يؤكد على لعب كل مباراة على حِدا، يُخبر لاعبيه أنه «ليس مطلوباً منكم إلا أن تخرجوا كل ما بوسعكم»، ويمتدح أمهاتهم بعد إقصاء تشيلسي من دوري الأبطال: «لأنهن ولدتن رجالاً».

ببطءٍ وعلى مَهل، سار الفريق، ككتلةٍ واحدة، في مُقدمتها «سيميوني»، نَحو السماء، صعد السلالم درجة بعد أخرى، ويتبقى الآن قَفزة واحدة، في «لشبونة»، لتكتمل المُعجزة، وتجعل من هذا الفريق في مجدٍ أبدي.


(8)

«نحن فريق عادي، أشخاصٌ متواضعون، نُحاول فقط أن نفعل الأمور بأفضلِ ما نستطيع».. «سيميوني» بعد الفوز على ميلان في إيطاليا بهدفِ دييجو كوستا

«أفلا يَنْصِفُ الله مُختاريه الضارعين إليه في الليلِ والنهار وهو مُتمهّل عَليهم؟».. الكتاب المُقّدس.. لوقا 18:7