إهداء: إلى كل المصريين المتعاطفين مع التلميذات المخطوفات في نيجيريا من قِبَل إرهابيي بوكو حرام الذين ارتكبوا مذابح ضد المسيحيين وضد المسلمين غير المتعاونين.
في مطلع الألفية الثالثة يتحلق طلبة بجامعة المنيا حول شاشة كمبيوتر أحدهم ويشاهدون تسجيلات مصورة منوعة مضحكة أو فضائحية أو عنيفة. من النوع الأخير مثلاً لقطات لقتل وإعدام بدون محاكمة من الشيشان.
ربما لم يكن لهذا علاقة بأن بعضهم يتعاطى العقاقير الكيميائية كما كان رائجًا في ذلك الوقت بين الشباب، بقدر ما أن هذه المصنفات كانت منتشرة لسبب ما على الكمبيوترات – في وقت لم تكن الهواتف فيه ذكية ولم تكن سرعات الإنترنت تسمح بتداولها عليه – ضمن الغرائب والعجائب والممنوعات المتنوعة، لكنهم كانوا على أي حال متأثرين.
أحد الفيديوهات يُظهر شخصين أفريقيين داخل حقل، بجوارهما ثالث بخوذة، أحدهما عاري الصدر ومقيد، وعلى شفتي الآخر ووجهه تعبير هادئ باسم واثق بينما يتبادل الحديث بالإنجليزية مع شخص وراء الكاميرا يتحدث الإنجليزية بلكنة أصلية، بينما المقيد يتوسل بلغة غير مفهومة. بعد دقيقتين وأثناء الحديث يطلق الأول النار على رأس الثاني. يصرخ الطالب مصدومًا رغم أنه شاهد الفيديو أكثر من مرة: «سَكِّته! سَكِّته!» بعد عشر سنوات، يجلس أحدهم ليبحث عن أصل الفيديو الذي علق بذاكرته دونًا عن غيره، ولم تكن لديه أي فكرة عن خلفيته.
وبعد أن بحث طويلاً بكل الكلمات المفتاحية المحتملة، وجده.اللقطات من الحرب الأهلية النيجيرية لإعدام بدون محاكمة لرجل مشتبه في كونه جنديًّا بيافريًّا، من أرشيف قناة إخبارية أوروبية.
وفقًا لمستخدم يوتيوب، فالمعدوم في الفيديو هو ماثياس كانو أثناء مداهمة لقرية من قِبَل الجيش النيجيري الفيدرالي.والفيديو مرفوع كمحاولة للتعرف على القاتل (برتبة كابتن) «لكي ترقد روح كانو في سلام».
في مقال ويكيبيديا الإنجليزية عن الحرب المعنية يلفت نظر الباحث من ضمن قائمة المتحاربين علم الجمهورية العربية المتحدة، الذي ظل اسمًا رسميًّا لمصر حتى بعد انفصالها عن سوريا بل ووفاة عبدالناصر، ضمن أعلام عربية أخرى، إلى جانب إنجلترا والاتحاد السوفيتي ودول أفريقية. وبمزيد من البحث، ومع قلة المصادر بشكل غريب ومريب في زمن انفجار المعلومات- وكلها بالإنجليزية، لم يصل بالعربية إلى شيء تقريبًا سوى رسالة جامعية على موقع الأهرام عرضها بطرس بطرس غالي عن الحرب في مجلة السياسة الدولية سنة 1975، دون أن يذكر مصر.
أما المصادر الإنجليزية فلا تذكر مصر إلا بشكل عابر لكنها تتفق على الدور الذي لعبته: قيام الطيارين المصريين وهم يقودون طائرات حربية روسية حديثة (إليوشين وفقًا لبعض المصادر) باعتراض طريق رحلات المؤن والإمدادات للجانب البيافري وقتل المدنيين البيافريين، إذ ألحقوا بهم خسائر كبيرة في الأرواح وهم في مواقع مدنية، ومن على ارتفاع منخفض، مثل مراكز إيواء اللاجئين والمستشفيات وغيرها بشكل واضح فيه استهدافهم، وكل هذا بعد وقت قليل جدًّا من هزيمة 1967 المرتبطة عسكريًّا بتدمير سلاح الطيران المصري. وهكذا فإلى جانب قوات الشمال النيجيري المسلم، قام «تحالف أممي من بريطانيا العظمى والاتحاد السوفيتي ومصر وجامعة الدول العربية دون شفقة بقتل عدة ملايين من الأطفال والنساء والرجال الإجبو/ البيافريين قصفًا و…تجويعًا».
وبالعودة إلى ويكيبيديا الإنجليزية، حيث أغلب المصادر المذكورة هناك في هذا الجانب تعود إلى أبحاث وكتب غير متاحة على الإنترنت بأي شكل، فمن الواضح أن الانفصاليين البيافريين كانوا مرتبطين بشكل ما بإسرائيل (مع فرنسا والبرتغال ودول أفريقية) ومع ذلك فإن قائمة المتحاربين على ويكيبيديا الإنجليزية لا تضع إسرائيل ضمن المتحاربين، على عكس ويكيبيديا العربية التي تضعها ولا تذكر مصر على الإطلاق.
اتخذت الحرب داخل نيجيريا شكلاً إثنيًّا (عرقيًّا ودينيًّا وثقافيًّا في آن، وإقليميًّا أيضًا، حيث تقع بيافرا الانفصالية قصيرة العمر في الجنوب الشرقي)، وسرعان ما تحولت إلى قضية إنسانية بسبب المجاعة والأمراض. وفي المجمل أسفرت الإبادة عن سقوط ما يتراوح من مليون إلى ثلاثة ملايين مدني.
وفي حوار جمال نكروما بعد ثورة 2011 مع محمد فايق «رجل عبد الناصر في أفريقيا» ونائب المجلس القومي لحقوق الإنسان بمصر وقت إجراء الحوار، ورئيسه فيما بعد، يقول فايق إن من ضمن التحديات التي واجهتها سياسة عبدالناصر في أفريقيا أنه «عند نشوب الحرب الأهلية النيجيرية بعد انفصال بيافرا ثارت ثائرة أمم أفريقية عديدة متعاطفة مع القضية البيافرية حيال موقف القاهرة الموالي لنيجيريا. واتهم الرئيس التنزاني جوليوس نيريري ونظيره الزامبي كينيث كاوندا مصر بدعم نيجيريا بسبب الانحياز الديني»، لكن أبطال الاستقلال أساؤوا فهم زميلهم المصري، بحسب فايق، الذي يقول إن الأخير أيد «سيادة نيجيريا ووحدتها الوطنية واتصالها الجغرافي». و«عارض…بضراوة بلقنة أفريقيا».وبقي أبطال الاستقلال أصدقاء مقربين «بغض النظر عن الاختلافات السياسية» و«كانوا يتحدثون بصراحة شديدة وتبادلنا الرؤى والأفكار بحرية».
يصدق على الإنترنت بشدة المثل الصيني القائل «إنك لا تنزل النهر مرتين».وفي السنوات الأخيرة بالذات، تتسابق المؤسسات الصحفية والأراشيف الكبرى في نشر رصيدها وإتاحته للجميع على الإنترنت. وهكذا نتمكن لأول مرة من الوصول ليس إلى مقالات عن اغتيال السادات مثلاً، وإنما إلى نصوص وتسجيلات التقارير الصحفية الواردة من الوكالات والمنشورة والمذاعة في المنابر المختلفة في ذلك اليوم والأيام التالية، ومرورًا بجلسات محاكمة مغتاليه، إضافة إلى فيديوهات كالمذكورة أعلاه خرجت من مكتبات هواة التسجيلات والجامعين أو سربت من العاملين في مؤسسات.
لكن تبقى غريبة قلة المعلومات المتاحة عن حرب أهلية/ جريمة إبادة حديثة ومجاعة كبرى دامت ثلاث سنوات على الأقل، ولعلها تشي بقلة المعلومات خارج الإنترنت أصلاً. وربما كان من ضمن الأسباب بطء المؤرخين، إذا استبعدنا فكرة التكتم والمسكوت عنه.وبالطبع فإن الصمت لا يخص دور مصر فقط، بل ربما كان سببه الأساسي ضلوع قوى غربية كبرى. ولم ينشر تشينوا أتشيبي (وهو من إجبو بيافرا) مذكراته عن الحرب، «التي طال انتظارها» وفقًا لـ«بي بي سي»، سوى في 2012، قبل وفاته في العام التالي. وحتى في الأدب، لم تظهر رواية تشيماماندا أديتشي المولودة بعد الحرب سوى في 2006. ومن اللافت أن مترجمتها إلى العربية، بعنوان «نصف شمس صفراء» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، هي فاطمة ناعوت، الكاتبة البارزة المؤيدة للسيسي والجيش بعد انقلاب 30 يونيو والمذابح التي تلته والمحبة لعبدالناصر.
يرد ذكر مصر والمصريين مرتين في الرواية. ففي صفحة 425 من الطبعة المصرية يقول أحد الأبطال:
بوسعك أن تخبرهم كيف أننا مستمرون في الصمود منتصرين برغم الميج الـ 17 النيجيرية والـ 28 والـ 29 التي يقودها طيارون روس ومصريون وتقذفنا بالقنابل كل يوم، وكيف أن بعضهم يستخدم طائرات ركاب يدحرجون منها القنابل بخشونة ليقتلوا النساء والأطفال.
وفي صفحة 469، يدعو قس في صلوات الصباح قائلاً:
الرب يبارك فخامته! الرب فليعط تنزانيا والجابون القوة! فليدمر الرب نيجيريا وبريطانيا ومصر والجزائر وروسيا! باسم المسيح المقدس!
وفي مذكرات أتشيبي، يرد ذكر المصريين 4 مرات منها مثلا في صفحة 136، تحت عنوان «دماء، دماء في كل مكان»:
وجد البيافريون أنفسهم تحت هجوم كثيف بعد هجمة وسط الغرب. فسيطرت الفرقة الأولى في الجيش بقيادة محمد الشوة، بسرعة، متقدمة مع ثيوفيلوس دانچوما، على مدينة نسوكا الجامعية، ثم قصفت بلا هوادة عاصمة بيافرا بأسلحة ثقيلة.ساعد في العملية العسكرية الطيارون المرتزقة المصريون وهم يقودون طائرات الجيش النيجيري الجديدة البريطانية و…التشيكية و…السوفيتية.
اسم بوكو حرام Boko haram، حيث الكلمة الأولى بلغة الهاوسا والثانية عربية، قد يعني «الفساد حرام» وقد يعني «التعليم الغربي حرام»، حيث كلمة بوكو تحريف لكلمة book. أما كلمة poco فهي اختصار لمصطلح postcolonialism (ما بعد الاستعمار). وقصة مصر في بيافرا ترينا وضعنا بالضبط في ظل ما بعد الاستعمار، وأن ما بعد الاستعمار حرام، حرام يجب إزالته.