في أثناء زيارتي لبريطانيا بعد أن دعيت إلى حضور معرض الكتاب الدولي بلندن الذي كان قد خصص دورة عام 2009 للعرب كضيف شرف، لفت نظري أمران خاصان بسلوكنا في الخارج كمصريين وعرب، الأول كنا (أنا وبصحبتي كاتبان عربيان أحدهما من اليمن والآخر من سوريا) قد تهنا في شوارع لندن وأزقتها وكان الوقت قد شارف على منتصف الليل، وما أدراك ما منتصف الليل في لندن كيف يكون والمحال التجارية تغلق أبوابها عند العاشرة وسيارات تمرق بجوارنا، وبعدها بنصف ساعة لا ترى أحدا في الشوارع إلا بضع سيارات تمرق بجوارنا كومضات الفلاش، ظللنا نتسكع ونحاول أن نحدد الوجهة التي سنتخذها لنقترب من الأوتيل وتشجعنا وقررنا بالإجماع أن نوقف تاكسى ونعطيه الكارت المدون به اسم الأوتيل وعنوانه كي يوصلنا إليه، وكان هذا قرارا في منتهى الشجاعة لأن أجرة التاكسي فى لندن شيء مروع كما سمعنا بذلك، وكما حذرونا عند وصولنا إلى لندن، حتى هذه المغامرة باءت بالفشل فيبدو أننا كنا قد أوغلنا في مناطق تكاد تكون مهجورة ولا تمر بها التاكسيات، اخترنا جهة وقررنا السير فيها، وبعد مسافة غير قليلة وجدنا ميدانا صغيرا وعلى ناصيته يقبع كشك متوسط الحجم يبيع السجائر والبسكويت والبقالة الصغيرة، الكشك يماثل بالضبط الأكشاك المصرية التى تملأ شوارعنا بالبضاعة المكدسة أمامه وبالحوامل المعدنية التي على متنها أكياس الشيبسي وبرطمانات المربى وماكينات الحلاقة ذات الاستخدام المتعدد، وبداخل الكشك يقبع صاحبه لا يبين منه إلا وجهه الملثم بالكوفية وعيناه المقلقتان من خلف نظارة طبية بعدسات سميكة، تطوعت أن أسأله عن أقرب مكان أستطيع أن آخذ منه مواصلة عامة إلى الأوتيل، وبينما أنا أستحضر مفردات اللغة الإنجليزية التي ستساعدنا في توصيل سؤالي إليه، وجدته خرج فجأة من الكشك وسلم علينا بحرارة مرحبا بنا باللغة العربية، وقال لي إنه مصري ومقيم في لندن منذ عشرين عاما، وأجلسنا على صناديق المشروبات الغازية وألقى على أجسادنا بقطعة قماش أشبه بقماش الخيم كي يقي أجسادنا من البرد، وصمم على أن نحتسي الشاي الذي جهزه على موقد صغير ثم أغلق كشكه كي يسير معنا لمسافة تتعدى الكيلو متر حتى أوصلنا إلى محطة الأتوبيس الذي سينقلنا إلى الأوتيل، وسألنا إن كنا نحتاج أموالا، معتقدا أن نقودنا قد نفدت، رفضنا فقد كان معنا ما يكفينا فغادرنا عائدا مرة أخرى إلى الكشك الذي يمتلكه ويعمل به ليلا؛ لأن له عملا آخر فى مساء كل يوم في أحد المطاعم.
لن تتصوروا كيف كان لهذه القصة البسيطة المعبرة تأثير عميق بين أصدقائى العرب الذين شاركوني أحداثها وبقية الوفد الذين استمعوا إليها.. ثم حدث الأمر الثاني.
بعد هذه الواقعة بيومين، ولحسن الحظ كنت بمفردي في ميدان من أكبر ميادين العاصمة البريطانية، وذهبت لتفقد الجزء المخصص لبيع الطعام والمطاعم، وكانت كلها متراصة جوار بعضها ومكتوبا عليها جنس الطعام الذي تقدمه كأنها في ذات الوقت تعلن عن حضور بلدها في هذه السوق الكبيرة، أطعمة مكسيكية وأمريكية وهندية وإيطالية وفرنسية، ولفت نظري طابور كبير أمام أحدها، وكان مكتوبا عليه المطعم السكندري بالعربية والإنجليزية، أسرعت إليه فوجدته يقدم ساندويتشات الطعمية في خبز الكيزر وعليه الطحينة والكاتشب وشرائح الطماطم مماثلة لساندويتشات الهمبورجر التي يقدمونها هناك، لكن السعر هنا كان أكثر مرة ونصف المرة من سعر الساندويتشات في كل المطاعم المجاورة، فرحت لإقبال الناس على هذه الأكلة الشعبية، وصبرت على وقوفي الطويل في الطابور، ثم اقترب دوري، ولم يكن أمامي إلا فتاة إنجليزية جميلة تستعد لإعطاء طلبها حتى يجهزوه بسرعة ثم ينادوها، المحل صغير جدا في حجم المحال المجاورة، واجهته حوالي 2 متر بعمق أربعة أمتار يفصل العمق قطع خشبي في المنتصف وبه باب صغير يفضي إلى المطبخ بالداخل، وفى الواجهة عاملان مصريان أحدهما يأخذ النقود ويناول الطعام والآخر يحضر البضاعة في المطبخ ويجهز الساندويتشات.. الشخص الذي يتناول النقود ويتلقى الطلبات كان في تلك اللحظة مبتسما جدا ويفتعل أنه يسمع ما تطلبه الفتاة الحسناء، كانت الفتاة تصف ما تريده بدقة من سلطات ومقبلات وكان صاحبنا تتسع ابتسامته وهو يقول لها بلغة عربية كلاما فاحشا جدا عن صدرها وشفايفها وما ينوي أن يفعله بها إذا ما تمكن منها.. وزميله الآخر الذي يجاوره بالكاد يخفي ابتساماته، والفتاة تعتقد أنه يجاملها وتبتسم في سعادة، فور انصراف الفتاة نهرته بشدة على كم السفالة والبذاءة التي خرجت من فمه تجاه الفتاة المسكينة التي تساعده في كسب عيشه، وعلى إثر علو صوتي خرج صاحب المكان من الداخل ووبخه بشدة وتوالت اعتذارات الرجلين لكنني خرجت مستاء جدا من هذا الموقف الذى تذكرته منذ أيام وأنا أشاهد على اليوتيوب لقطات قصيرة لحادثة واقعية تحت عنوان "فضيحة زواج فى الملاديف".
والملاديف هي مجموعة من الجزر في آسيا تقع على المحيط الهندى، وبها أكثر من 95 منتجعا لقضاء شهر العسل والإجازات، وتعتمد اعتمادا كبيرا على السياحة بما تملكه من جزر وأماكن بكر وبراري طبيعية صامتة، وقد صارت جاذبة جدا للسياح الغربيين وفي إحدى جزرها كان السياح كبار السن يفتنون بمشاهدة طقوس الزواج الملاديفي التي كانت تدهشهم جدا، ثم رأى أحدهم أن هذه الفكرة يمكن تطويرها بحيث تجتذب سياحا أكثر، ومن هنا كان الأزواج يرغّبون السياح بأنه يمكن تزويجهم مرة أخرى طبقا للتقاليد الملاديفية نظير مبالغ ليست ضخمة، وكانت تلك الفكرة تلقى قبولا مدهشا من هؤلاء السياح، ويبدأ أصحاب هذا المشروع في إقامة طقوس الزواج لهم، ومنها أن يرتدي الزوجان ملابس خاصة بهذه المناسبة ويرقصا رقصات معينة ثم يجلسا أمام الشخص الذى سيعمدهما زوجين ويرددا خلفه الكلمات التي ستربطهما إلى الأبد وتجعلهما زوجين على الطريقة الملاديفية.. كل هذا لا غبار عليه.. المشكلة الحقيقية كانت في الكلمات التي يقولها الشخص الذي يعلنهما زوجين؛ لأن الكلمات هذه كانت باللغة الملاديفية ويرددها وراءه الزوجان كالببغاء.. ومن هذه الكلمات: نحن عنصر نجس.. سننتهي في أسفل الجحيم.. نحن لا نستحق العيش.. نعيش على القذارة ونقتات على الدم.. وبعد أن يردد الزوجان هذه الكلمات باللغة الملاديفية يرقصان فى سعادة.. تسربت هذه الفيديوهات وتمت ترجمة الكلمات التي تقال باللغة الملاديفية وحدثت فضيحة كبرى كادت تودي بالسياحة في بلاد الملاديف.
الذي يدهشني فيما سردته أعلاه، استغلال جهل الآخر باللغة أو اللهجة، والسخرية منه ومحاولة النيل منه، الذي ينم عن خسة ووضاعة، حتى لو فرضا كان لك موقف مخالف مع الآخر، فلا بد أن تواجهه بلغة يفهمها وأن تكون قادرًا على تداعيات ما تفعله، لكن أن تتخفى وراء جهل الآخر بما تقول وتسبه وتلعنه أو تقول له كلاما مهينا أو مبتذلا، فهذا يحط من إنسانيتك وينزل بها درجات، فما بالنا بشخص أتى خصيصا ليتعرف على حضارتك ويسهم بنقوده في إسعادك، وكلامي هذا ينطبق أيضا على بعض العاملين بمهنة السياحة عندنا ويسيئون لها جدا، وعندما تقل أعداد السياح يتباكون.