حسناً ما فعلته مؤسسة الرئاسة باستدراكها أسماء السياسيين والأكاديميين والقانونيين الذين سقطت أسماؤهم من القرار الجمهورى الأول، الصادر فى 17 مارس الماضى بتكريم الفريق المصرى المشارك فى مفاوضات طابا، والذين نجحوا جميعاً قبل 25 عاماً فى عملهم كفريق وطنى متكامل فى إعادة هذه الرقعة الغالية من المحتل الإسرائيلى الغاصب إلى حضن الوطن، وحسناً أيضاً تكريم كل هذه الكوكبة الأسبوع الماضى فى ذكرى احتفال مصر بعيد تحرير سيناء.
لكن هذا الخطأ الذى حدث وأراه وكثيرون غيرى كبيراً وخطيراً، يفتح المجال مع تداعيات الأحداث وتشابكها وتشابهها مع أحداث مرت على نفس البقعة من أرضنا المصرية لإلقاء الضوء على دروس مستفادة من هذا الحدث.
أول هذه الدروس أن إدارة القضايا الكبرى تحتاج إلى قوة وعزيمة صلبة.. مفاوض قوى ينتمى إلى دولة ذات إرادة مستقلة لديها مشروع محدد الملامح، ثانى الدروس أن خبرات أبناء الوطن لابد أن توظف جميعها فى صالح القضية القومية بعيداً عن الانتماء السياسى أو الدينى أو العرقى لأصحاب هذه الخبرات أو التخصصات المطلوبة ومعارضتهم أو تأييدهم لرئيس الدولة أو متخذى القرار فى المؤسسات السيادية. لكن أهم الدروس فى نظرى أن التيار الليبرالى القومى هو الأكثر حرصاً على استقلالية البلاد وعلى تأمين حدودها. وأن مساهماته ومواقفه منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن هى إحدى الدعائم الرئيسية لاستقلال سيناء ولإعادة طابا بالتحديد إلى حضن الوطن، وذلك بالمقارنة بالتيار الإسلامى فى صوره المتعددة الداعى للتحالف مع الدولة العثمانية واستبدال التواجد التركى بالاحتلال البريطانى، انتهاء بجماعة الإخوان المسلمين ومن يدور فى فلكها والتى غض ممثلها فى الرئاسة- المعزول محمد مرسى- الطرف عن تنامى التيارات التكفيرية فى سيناء وتزايد الأطماع التركية فى بناء تحالفات على الطريقة العثمانية، التى تعمل على تذويب الحدود وتجاوز القوميات الحالية.. والنقطة الأخيرة تجسدت بكل وضوح فى المقارنة بين موقف القيادات الوطنية المؤيدة للخلافة العثمانية مثل مصطفى كامل والشيخ على يوسف وعبدالعزيز جاويش وبين الدعاة الأوائل لمبدأ مصر للمصريين، وهم اللبنة الأولى لليبرالية القومية فى مصر، وعلى رأس هؤلاء أحمد لطفى السيد، من قضية محددة هى قضية طابا فى 1906، وهل يتم التنازل عنها للدولة العثمانية، وتدخل ضمن حدود فلسطين، أم هى ضمن حدود سيناء.. علماً بأن هذا الجدل وهذا الترسيم هو الذى أعاد إلينا طابا فى 1989.
سألت الدكتور مصطفى الفقى، المفكر السياسى، المستشار السياسى للرئيس الأسبق حسنى مبارك، فى هذه المرحلة، عن ظروف تشكيل فريق طابا، فقال «مبارك اعتبرها قضية سياسية وليست حزبية.. وأنه من المهم اختيار الفريق على أساس الكفاءة وليس الانتماء السياسى.. وأنه اقتنع بتقرير الدكتور عصمت عبدالمجيد وزير الخارجية حول أعضاء اللجنة ولم يعترض على أى اسم فيه وقال «كثيرون ركزوا على اختيار د. وحيد رأفت المشهور- بمواقفه المعارضة ولم يدرسوا خلفيات باقى الفريق الذى ضم يساريين وناصريين.. بل إننا حصلنا على مساعدة من إسماعيل باشا شيرين، آخر وزير حربية فى عهد الملك فاروق، والزوج الثانى للأميرة فوزية، شقيقة فاروق.
ويعتبر اختيار- الدكتور مفيد شهاب- ضمن فريق طابا هو أول أعماله شبه الرسمية فى الحكومة بعيداً عن الجامعة، سألت شهاب عن مساهمته فى القضية فقال «كنت أعمل فى الكويت.. واتصل بى السفير الشافعى عبدالحميد، مدير الإدارة القانونية بالخارجية وعرض علىّ العودة والعمل مستشاراً للوفد المصرى وقبلت الوظيفة.. وأتذكر أننى بدأت مهمتى فى الخارجية قبل تشكيل الوفد رسمياً.. وشاركت فى المفاوضات مع إسرائيل لإقناعهم بالانسحاب، وذلك فى عامى 1985/1986.. كنت أشارك فى جولات القاهرة وتمسكت بموقفى بعدم السفر لإسرائيل ووافقوا لى على ذلك»، ويتفق شهاب مع الفقى فى أن عصمت عبدالمجيد هو صاحب فكرة تشكيل الفريق من داخل وزارة الخارجية ومن خارجها لكى يضم كل الأطياف، وأن مبارك وافق على ذلك.
الدكتور يونان لبيب رزق هو قومى ويسارى التوجه رغم أنه كان متيماً فى كل ما يكتب بالمرحلة الليبرالية الأولى فى مصر وكان دقيقاً وهو يشرح ويصحح فى مؤلفاته التاريخية وفى مقالاته، عدداً من المعلومات التاريخية الخاطئة التى أضيفت إلى مناهجنا فى مرحلة ما بعد ثورة يوليو، خاصة ما يتعلق بإغفال المناهج بعض الإنجازات الواضحة لأسرة محمد على، وكذلك تضخيم أحداث تاريخية بسيطة مثل حادث فتح كوبرى الجامعة بأمر من رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى لأهداف معينة. هذه الدقة هى التى قادت وزارة الخارجية إليه، كما تقول الدكتورة لطيفة سالم، أستاذ التاريخ الحديث، فالرجل هو أول من كتب عن الحدود الشرقية لمصر، وذلك فى 1967، بنشره دراسة شاملة فى مجلة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية حول أزمة العقبة والتى تطورت فيما بعد لتصبح أزمة طابا بين بريطانيا والدولة العثمانية. واستند فيها إلى وثائق أصلية من دار المحفوظات البريطانية، وهذه الدراسة طورها الدكتور يونان لبيب رزق ونشرها عام 1983 فى كتاب مستقل.
أبدأ بتشكيل الوفد المصرى المشارك فى مفاوضات طابا.. ففى 13 مايو 1985 صدر قرار رئيس الوزراء رقم 641 بتشكيل اللجنة القومية العليا لطابا وهى اللجنة التى تحولت بعد ذلك إلى هيئة الدفاع فى قضية طابا.. كانت إسرائيل قد تلكأت فى إعادة هذه المنطقة الاستراتيجية.
وذلك بعد إتمام الانسحاب من سيناء فى 25 إبريل 1982.. ثم ادعت فى أكثر من جولة مفاوضات على مدار 3 سنوات، أن طابا تدخل ضمن حدود فلسطين بل لجأت إلى تحريك قاعدة العلامة 91 إلى الغرب.
يقول الدكتور يونان لبيب رزق، عضو الفريق التفاوضى، فى كتابه «طابا قضية العصر»، إن القيادة المصرية أصرت على ضم كفاءات مصرية بغض النظر عن انتمائهم السياسى، لأنهم اعتبروا القضية ليست مجرد نزاع حدودى، إنما قضية رأى عام.. وأنه كان على ثقة من أن أى إدارة حكومية مهما بلغت ثقتها فى كفاءة رجالها عليها ألا تنفرد بالتصدى وحدها لقضية مصيرية مثل طابا.
يذكر د. يونان فى موضع آخر، فى كتابه، أن صحيفة الوفد كانت أكثر الصحف معارضة لمبدأ التحكيم.. على اعتبار «أنه لا تحكيم مع سيادة»، على اعتبار أن طابا مصرية وإسرائيل تعلم ذلك وتراوغ، وأن الأستاذ عبدالعزيز محمد والدكتور محمد عصفور كانا الأكثر حدة فى مهاجمة عمل فريق طابا.. وأنه رغماً عن ذلك تم اختيار الدكتور وحيد رأفت، نائب رئيس حزب الوفد، ضمن الفريق المفاوض.. يركز د. يونان أيضاً على اختيار الدكتور مفيد شهاب، أستاذ القانون الدولى بجامعة القاهرة، رغم أنه كان من الناصريين المعروفين بحكم تاريخه كأمين لمنظمة الشباب فى عهد عبدالناصر، وتعرضه للاعتقال فى القضية المعروفة باسم قضية مراكز القوى، ومعلوم أن وكيل جمهورية مصر العربية فى المفاوضات كان السفير الدكتور نبيل العربى، ونائبه السفير أحمد ماهر. فى كتابه «طابا.. كامب ديفيد الجدار العازل» يتحمس الدكتور نبيل العربى، الأمين العام للجامعة العربية، وكيل جمهورية مصر العربية فى المفاوضات، لدور وزارة الخارجية ومفاوضيها قياساً بباقى الأدوار ويقول «دأبت وسائل الإعلام والصحافة على تصوير قضية طابا على أنها كانت معركة عسكرية أفرزت بطولات، وهذا تصوير يجانبه الصواب وتاريخ النزاع كما تناولته وسائل الإعلام لم يعترف بالدور المحورى الذى باشرته وزارة الخارجية، ومازلنا نسمع إشادة بأسماء لها قيمتها العلمية والمهنية، ولكن تقتضى الأمانة أن أقرر أن غالبية هذه الأسماء كان دورها استشارياً ولم تتحمل أى مسؤولية خاصة، ولم تتفاوض أو لم تشارك فى اتخاذ القرارات وإعداد خطة الدفاع».
ورغم أن هذه المعلومة أكد عليها العربى أكثر من مرة، فإنه أشاد بالفريق المفاوض من خارج «الخارجية»، خاصة الدكتور حامد سلطان، المحكم المصرى فى القضية، والدكتور أبوالحجاج يوسف، سكرتير عام الجمعية الجغرافية، والدكتور يونان لبيب رزق والدكتور مفيد شهاب، والدكتور طلعت الغنيمى والدكتور أحمد القشيرى والدكتور صلاح عامر والأستاذ سمير صادق والدكتور جورج أبوصعب، إضافة إلى فريق وزير الدفاع، الذى ضم اللواء بحرى محسن حمدى واللواء فاروق لبيب واللواء خيرى الشماع والعميد مهندس محمد الشناوى والجيولوجى أحمد عبدالحليم، رئيس هيئة المساحة، إضافة إلى المستشار محمد أمين المهدى، نائب رئيس مجلس الدولة والمستشار الدكتور فتحى رجب.
وأعود للدكتور وحيد رأفت لإلقاء مزيد من الضوء على ظروف اختياره، فوفقاً للدكتور نبيل العربى فإن الفريق كمال حسن على، وزير الخارجية الأسبق، تولى إبلاغ الدكتور رأفت نهاية 1983 عن طريق السفير الشافعى عبدالحميد أن مصر سوف ترشحه محكماً عنها عندما توافق إسرائيل على الالتجاء إلى التحكيم. ويؤكد أن رئيس الجمهورية كان يطلب أحياناً معرفة رأى رأفت ورأى الدكتور مفيد شهاب فى بعض المسائل المطروحة. وكانا يحضران إلى مكتب وزير الخارجية ويتم الاتصال برئيس الجمهورية لعرض الآراء.
وبالفعل تم اختيار الدكتور رأفت ضمن الفريق القانونى، لكن لم يكن المحكم المصرى فى القضية حيث تولى هذه المهمة الأستاذ الدكتور حامد سلطان، عميد أساتذة القانون الدولى فى العالم العربى، يشير العربى إلى نقطة مهمة وهى أن رأفت استمر فى المشاركة فى اللجنة القومية والإسهام باقتدار عظيم فى مداولاتها، لكنه رحل عن عالمنا فى مايو 1987، أى قبل أن تبدأ هيئة التحكيم عملها بعشرة شهور.. وبالتالى لم تسنح له فرصة المشاركة فى الدفاع عن وجهة نظر مصر أمام هيئة التحكيم.
وفى موضع آخر من الكتاب يقول «تعاملى مع رأفت كان يشوبه نوع من الجفاء لأنه لم يكن يرفع الكلفة، وكان رحمه الله قليل الكلام.. وكنت أشعر دائماً أنه يعتبرنى شاباً قليل الخبرة، فالدكتور رأفت كان مدرساً للقانون العام فى كلية الحقوق فى نفس الوقت الذى كان فيه والدى أستاذاً لنفس المادة فى الكلية فى ثلاثينيات القرن الماضى.
فى المقابل فإن الأستاذ لمعى المطيعى يركز فى كتابه «هؤلاء الرجال من مصر» على جانب آخر من مسيرة وحيد رأفت، حيث يقارن بين موقعه عندما كان رئيساً لقسم الرأى والتوزيع فى مجلس الدولة، بموقف كل من الدكتور عبدالرازق السنهورى، رئيس مجلس الدولة، والأستاذ سليمان حافظ وكيل المجلس، من تعطيل ثورة يوليو للدستور فى نهاية شهر يوليو 1952، ويقول إن السنهورى التقى مع رغبة رجال الثورة فى فرض حكم ديكتاتورى، وكذلك كان الحال مع حافظ، أما رأفت فقد انحاز للحكومة المدنية والحكم النيابى وصل الأمر ببعض قيادات الجيش للقيام بترشيحه رئيساً لحكومة نيابية تنفذ قرارات 15 و20 مارس 1945.
أما فيما يتعلق بمبررات ترشيحه ضمن فريق طابا، فينقل المطيعى عن رأفت قوله «حدود مصر الدولية فى المنطقة هى علامات 1906، وطالما أن الجانبين المصرى والإسرائيلى يعترفان بأنها الحدود الدولية، فإن المسألة تتعلق بالكشف عن علامات لا أكثر ولا أقل. وإسرائيل تعلم تماماً أن طابا مصرية مائة فى المائة، ولكنها تنظر إلى هذه المنطقة على أنها مسمار جحا حين يمكنها دائماً المساومة، وهذا ثابت من الشروط التى تقدمت للموافقة على قبول مبدأ التحكيم.. وإسرائيل يسيل لعابها إلى مياه الآبار الموجودة فى المنطقة، وكلنا نعلم مدى حاجة إسرائيل للمياه، ثم إن وجود طابا على خليج العقبة يزيد من مساحة الساحل البحرى لإسرائيل، بالإضافة إلى أن طابا صمام أمن فى مقدمة الطريق إلى السويس والعريش.. يضيف رأفت.. إذا كنا لم نتنازل عن طابا لتركيا، وقد كانت مصر جزءاً من الدولة العثمانية فهل نتنازل عنها لإسرائيل!
تعيدنا هذه النقطة مباشرة إلى عام 1906 وبالتحديد إلى شهر يناير، حين احتلت قوات تابعة للدولة العثمانية منطقة طابا، وكان هدفها المعلن والذى لاقى أصداءً فى القاهرة هو تأمين قوافل الحج التى تسلك الطريق البرى إلى الحجاز، كذلك للتمهيد لإنشاء خط سكة حديد يربط أسطنبول بالحجاز، وينتهى جنوباً فى اليمن، مما أثار بريطانيا وحملها على الاحتجاج على تركيا وانتهت الأزمة بالرضوخ إلى الضغوط البريطانية التى تواكبت مع إنزال بحرى بريطانى فى المنطقة، وسحبت الدولة العثمانية قواتها وسوت مسألة حدود مصر الشرقية، وتم الاتفاق على أن تمتد الحدود من رفح على البحر المتوسط شمالاً إلى موقع يقع إلى الغرب من العقبة بثلاثة أميال، وبقيت طابا ضمن حدود مصر والعقبة من أملاك تركيا. ورغم انتهاء الأزمة مع الأرض، إلا أن آثارها وتداعياتها ظلت ممتدة لسنوات فى القاهرة. ويربط معظم المؤرخين بين هذه القضية، وظهور فاعلية التيار الليبرالى الوليد على الأرض، وكما تقول الدكتورة لطيفة سالم فإن شعار «مصر للمصريين» الذى استخدمه لطفى السيد فى مقالاته عقب هذا الحادث هو نتاج لفكر محمد عبده، ولمواقف أحمد عرابى. تضيف: محمد عبده كان يقول «فى خطبة ضد الاحتلال البريطانى إنه مع استقلال مصر من كل محتل.. وإنه ولو عاد الأتراك ليحكموننا مجدداً لقطعنا دابرهم»، لكن التيار الليبرالى كان أكثر قوة فى بداية القرن العشرين عن مرحلة أحمد عرابى، وينقل الدكتور حسين فوزى النجار فى كتابه عن أحمد لطفى السيد من مذكراته أن الخاصة من الأعيان والمثقفين كانوا بعيدين عن الحركة الوطنية، أما الأعيان فلا يستهويهم تأييد الخديو للحركة الوطنية ولا تستهويهم مُلاحاة الاحتلال ملاحاة تصل إلى العنف الذى يفقدهم عطفه، وقد يجر عليهم مضرة لا يجدون عنها عوضاً لدى السلطة التى تحكم بعد الجلاء، وأما المثقفون فكانوا أكثر من غيرهم فهماً لأساليب السياسة الأوروبية، وما كانوا يؤمنون بجدوى الاعتماد على تحقيق الجلاء عليها، كما كانوا أكثر وعياً لمعنى الاستقلال المجرد من التبعية والسيادة، وإن كانت التبعية لدولة الخلافة أو التسليم بسيادة خليفة المسلمين.
ويضيف «فلما وقع حادث طابا وتحطم على صخرته آخر أمل يعقده الوطنيون على دولة الخلافة، أدرك لطفى السيد أن الوقت قد حان للإعلان عن فكرته التى آمن بها من قبل، وهى إصدار جريدة مستقلة غير متصلة بسراى الخديو ولا بالوكالة البريطانية».
ومن يراجع أسماء المساهمين فى «الجريدة والتى صدرت بالفعل فى مارس 1907 سيجد معظم القامات الوطنية العظيمة التى أصبحت بعد 12 عاماً تقريباً هى نواة ثورة 1919.. ولا يتسع المجال هنا لذكرهم. ومن خلال مقالاته فى الجريدة، وما نشره خلال أزمة طابا يلخص المؤرخون موقفه بأنه وقف مع الإنجليز فى قضية طابا الأولى ضد مصطفى كامل، وكان أساس موقفه أن طابا مصرية وأنه سيقف مع من يؤيد بقاء طابا ضمن حدود مصر مسلماً أو مسيحياً أو وثنياً.. وبعد ذلك لسنوات معدودة وقف ضد حملة الجهاد فى طرابلس ضد الاحتلال الإيطالى لصالح الخلافة العثمانية.. كان يركز على التزام المصريين بالحياد وعدم بعثرة أموالهم بين الإيطاليين والعثمانيين.
فى المقابل، فإن مصطفى كامل قد ربط مواقفه وما يكتب فى جريدته اللواء بمواقف الخديو عباس الثانى، لكنه فى حادثة طابا قد أخذ بعداً أشد لإلهاب المشاعر فى تحديد حق بريطانيا فى التفاوض على أراض مصرية، وكان مصطفى كامل قد بدأ للتو فى إصدار جريدة اللواء لإزكاء الروح الوطنية ضد الإنجليز.. ولذلك كان مؤيداً لمطالب الدولة العثمانية فى أخذ جزء من شبه جزيرة سيناء، وسار على دربه عدد من السياسيين والشيوخ فى خطبهم ومقالاتهم وفوق المنابر بتأجيج المشاعر ضد استعادة طابا من خليفة المؤمنين، والذى كان يخطط لصالح المسلمين والإسلام بمد سكة حديد الحجاز تنقل المسلمين من وإلى مكة. ويجمع المؤرخون أن الخط الحديدى الذى اكتمل بعد ذلك بسنوات بمحاذاة الحدود المصرية الشرقية، هو ذروة التداخل بين ألمانيا والدولة العثمانية، وأن الألمان وجدوا ضالتهم فى «رجل أوروبا المريض» الدولة العثمانية وسلطانها عبدالحميد الثانى لبناء قاعدة استعمارية فى المنطقة.
يصف الدكتور عاصم الدسوقى، أستاذ التاريخ الحديث، هذه الفترة بالمرتبكة.. وينبه إلى بعد جديد فى أزمة الحدود الشرقية لمصر وهى «ظهور المشروع الصهيونى وإصراره فى مؤتمر 1905 على أن تكون فلسطين هى الدولة القومية لليهود بعد أن رفضوا فى هذا المؤتمر اقتراحات غربية بالمفاضلة بين كندا واستراليا وأوغندا.. ويشير إلى ارتباك آخر فى المشهد ممثلاً فى ضعف الدولة العثمانية وتحيز قطاع عريض من المصريين والمسلمين بشكل عام لفكرة «الجامعة الإسلامية» وأن هذا الفريق ممثلاً فى مصطفى كامل ثم محمد فريد وغيرهما كانا الأقرب لقلوب العامة، ويشير إلى أنه بعد شهور معدودة من هذه الواقعة، وبعد وفاة مصطفى كامل - توفى فى 1908- ظهر تيار متشدد على الساحة وفى جريدة اللواء نفسها يقوده الشيخ عبدالعزيز جاويش يسب الأقباط ويطعن فى عقيدتهم، كما أن واحداً مثل الشيخ على يوسف وجريدته المصرية كانت تدور فى فلك الخديو.. وهو كان ممولها الوحيد. يؤكد الدسوقى أن رموز التيار الليبرالى هم الدعاة الأوائل للقومية المصرية.. وكان الاستقلال من المحتل قضيته الوطنية. يقول الدكتور مصطفى الفقى: التيار الليبرالى هو الحريص على القومية المصرية.. أما التيار الإسلامى كان ولا يزال «عثمانى».
لا يفضل المؤرخون مقولة «التاريخ يعيد نفسه» ويفضلون بدلاً من ذلك «الاستفادة من دروس التاريخ». لكن هناك عناوين رئيسية متشابهة للغاية فى قضية «طابا» وهى رغبة فى الحالتين من محتل لاغتصابها.. وتيار وطنى يهب للدفاع عنها.. وتيار آخر بشعارات إسلامية يريد منحها للمحتل، فى المرة الأول لخليفة المسلمين.. والمرة القريبة يخطط لاستئصالها مع سيناء كلها.. دعوات للتخوين وشعارات جوفاء للجهاد.
وبين هذا وذاك يبقى التيار الليبرالى القومى مظلوماً دائماً.. والإسلاميون هم الأقدر على مخاطبة الجماهير ودغدغة مشاعرهم.. يقول لطفى السيد فى مذكراته أنه لا يجيد الخطابة ولا مواجهة الجماهير، وبينما كان يدعو إلى الديمقراطية والحداثة سقط بشكل مدو فى دائرته الانتخابية بالدقهلية فى انتخابات 1924 بعد أن أشاع منافسه أنه ديمقراطى.. وفسرها للبسطاء بأنها كلمة كفر وهى تدعو للإباحية والدعارة.. والطريف أن هذا المرشح نصب فخاً للطفى السيد، حيث طلب من الناخبين أن يسألوه بأنفسهم هل أنت ديمقراطى.. فما كان من الرجل إلا أن رد بشكل عفوى: «نعم أنا ديمقراطى وسأظل ديمقراطى حتى الممات».. وكانت النتيجة.. حرق سرادق الانتخاب وفشله فشلاً ذريعاً.
الليبراليون حتى اليوم يتعرضون لمأساة أشد، فإضافة إلى موقف الإسلاميين منهم بالتشكيك فى ثوابتهم وأحياناً عقائدهم.. يواجهون الآن حملة شرسة من المتسيدين للموقف بأنهم عملاء للخارج ولا ينتمون للوطن.