وسط صحراء قاحلة.
بلاش الفكرة دي.. مرعبة فعلا، نخليها: هل فكر أحدكم في مشاعر خبير المفرقعات وهو يمسك أسلاك القنبلة محاولا تفكيكها، ونزع خطورتها؟
أنا فكرت، لكن لا أستطيع أن أصف لكم مشاعري أثناء هذه التفكير، فهي مزيج من التوتر والإثارة، وتلك المشاعر التي تنتابني في الدقائق الأخيرة من المباريات، وفي أوقات الخطر، وأحيانا أثناء قراءة الشعر، والآن حيث أفكر في كتابة مقالي الثاني عن "التوافق" في وطن يتلذذ بالتناحر، والإقصاء، وانتهاك القيم واللغة، بل والسادية في التعامل مع الآخر!.
اعترف أن اختياري لتوقيت الكتابة عن التوافق لم يكن صدفة، فقد قصدت أن أبدأه يوم الأحد الماضي، لأصل إلى هذا الجزء من المقال، اليوم في عيد الميلاد الثالث لآخر تصريحات عاقلة أدلى بها المهندس خيرت الشاطر، قبل أن يتحول التوافق إلى استحواذ، وتتحول المشاركة إلى مغالبة، وتتحول ثورة يناير إلى "سبوبة عظيمة للذئاب"!
أعرف أنكم تعرفون أن قصة الشاطر لم تبدأ في ذلك اليوم فقط (29 ابريل 2011)، ولم تتوقف عند دخوله السجن في يوليو الماضي، لكننا سنركز اليوم على قصة "الشاطر والتوافق" والتي بدأت أيضا وهو في السجن، حيث تابع من زنزانته أخبار ثورة يناير، وأيد تصريحات الإخوان المتواضعة التي تنسب الثورة للشعب وتعلي من فكرة المشاركة لا المغالبة، وانهم مجرد فصيل وطني انضم لثورة، ولم يخطط لها أو يشعلها، ولذلك لن يقدموا ملاشحا للرئاسة، ولن يدعموا أي مرشح إسلامي (عجبتني جدا هذه الروح وكتبت مقالا بعنوان "تحية إلى الإخوان وكل الإخوان في الميدان")، وبعد أقل من شهر على تنحي مبارك خرج الشاطر من محبسه (مطلع مارس 2011) ، وأدلى بحوار على حلقتين لصحيفة "الشروق" نشر الجزء الثاني منه يوم 29 أبريل، وأكد فيه رفض الجماعة لترشح د. عبدالمنعم أبوالفتوح للرئاسة، وفند بعقل استراتيجي خطير أسباب عدم ترشحه أو اي قيادي في الجماعة لمنصب الرئاسة موضحا مخاطر الصورة التي كرستها الأنظمة السابقة للجماعة في الداخل والخارج باعتبارهم "فزاعة" و"خطر حقيقى"، موضحا أن كثير من النافذين فى الدولة وفى المؤسسة العسكرية والأمنية، وفي الخارج أيضا مصابون بالقلق من الإخوان بسبب التشويه الإعلامى، وقال بوضوح أن رسائل من المؤسسة العسكرية رحبت وسعدت بقرار الإخوان عدم المنافسة على الرئاسة، وعلى الأغلبية البرلمانية وقالوا ذلك صراحة، وأضاف الشاطر بوعي واضح: كما أننا مدركون أن «البلد واقعة جدا" ولا يمكن لفصيل بمفرده أن «يشيل الشيلة لوحده»، ولذلك نحن مع الفكر الائتلافى، لأننا نريد أن نوصل رسالة للناس مفادها: لا تقلقوا.
وأوضح الشاطر أنه يتذكر سيناريو الجزائر، و غزة، ولايريد أن يكرره، فعندما وصل الإسلاميون للحكم بشكل سريع انقلبت عليهم المؤسسة العسكرية والغرب، فهل انظر تحت قدمى فقط وأبحث عن مصلحة الجماعة فقط حتى أصل للحكم غدا، أم أنظر لمصلحة البلد ككل؟
والله كلام محترم وعين العقل، ولذلك عاقبوا ابو الفتوح بالفصل من الجماعة لأنه تجرأ بعد شهور، وأعلن عزمه الترشح (جماعة تحترم المبادئ وتحافظ على كلمتها)، وتوالت تصريحات قيادات الجماعة وعلى راسها المرشد العام الدكتور محمد بديع، الذي قال: «يجب أن يكون الرئيس توافقيا، ولن أعطى عبدالمنعم أبوالفتوح صوتى وأتعهد بذلك».
ومرت الأيام وجاء ربيع 2012 بزوابع الخماسين، ففي منتصف مارس انقلبت الجماعة على سيناريو "الرئيس التوافقي" الذي يؤيده الإخوان، والذي حاول المجلس العسكري تشخيصه في الدكتور منصور حسن، وطرح مجلس شورى الإخوان فكرة إعادة النظر فى قرار عدم الترشح للرئاسة وظهر اتجاه لترشيح الشاطر، لكن الفكرة رفضت في أول اجتماع للهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة (57 صوتا مقابل 13 فقط)، لكن الاجتماعات توالت، ولغة التحرش السياسي ارتفعت، وتزايدت العنجهية والعدائية والاستعلاء مع القوى السياسية، بل وامتدت إلى المجلس العسكري، وفي نهاية مارس أعلنت الجماعة بعد اجتماع استمر أكثر من 7 ساعات أنها ستتقدم بمرشح، واستولى الصراع المباشر على الساحة بدلا من التوافق، واصدر منصور حسن (الله يرحمه) بيانا اعلن فيه عدم ترشجه، وأوضح أن الإخوان "انقلبوا" على التوافق والاتفاقات، و"ظاطت" الدنيا، حيث سعت أجنحة في الحكم للضغظ على الغخوان ليتراجعوا، مرة بالحوار، ومرة بالتلويح بسيناريو 1954، ومرة بتمثيلية المواجهة في الانتخابات مع عمر سليمان، لكن المارد كان قد خرج من القمقم، وانتفخت أحلام السلطة في رؤوس قادة الجماعة وانتشت القيادات الوسطى بالظهور في الفضائيات بعد حظر طويل، وبدا أن غراءات السلطة كانت أكبر من اي عقل وتوافق، وبدون تفصيلات انتهت تجربة السلطة بماساة سياسية وإنسانية، لأنها في رأيي خالفت الوعي السياسي والتاريخي الذي أعلنه الشاطر في لظات التعقل والهدوء، وداس عليه هو وغيره لأسباب لم يحدثنا أحد عنها حتى الآن!.
هذا واحد من أهم الأسئلة الغامضة التي ننتظر إجابة عنه عند تناول تاريخ ثورة يناير.. ماهي القوة، أو القوى، او الإعراءات التي دفعت الجماعة للتنازل عن وعيها وعقلها، والحنث بعهدها، واستنكار مبادئها، والسير عكس الاتجاه، والوقوع في نفس الخطأ الجزائري والغزاوي الذي شرحه الشاطر باستفاضة؟.
هناك تكهنات عن تدخل التنظيم الدولي وقوى خارجية مثل تركيا، وتوفر مضخة تمويل من قطر، و"تطميع" عسكري من الفصائل الإسلامية المسلحة التي تعهدت بتوفير غطاء حماية، واستثمار الفرصة السانحة لغرس بذرة الدولة الإسلامية الكبرى التي أسماها البعض "دولة الخلافة" وأسماها آخرون "الولايات الإسلامية المتحدة"، أو الدولة الإسلامية الكبرى، وبرر فقهاء الجماعة هذا التراجع وهذه الخدعة بفتاوى ملفقة مستمدة من فقه الضرورة، وهذا أمر يطول شرحه، لكن ما يعنينا الآن، هو أن تجاوز "التوافق" أدى إلى كارثة خسر فيها الجميع.
هذا السيناريو المخيف، يطرح نفسه اليوم بنفس الأسلوب، لكن الخطير أنه انتقل من "الجماعة" إلى "المجتمع"، فالملاحظ أن الإدارة الحاكمة (بجهازها التنفيذي وإعلامها ورجال أعمالها) لا تلتفت لخطورة نشر مفهوم الصراع والتراشق بدلا من مفهوم التعاون والتوافق، بل أن السيسي (مع الفارق) يبدو كما لو أنه يكرر "غلطة الشاطر"، فهو ايضا قد تعهد بنصوص واضحة أنه لن يترشح، وأن المؤسسة العسكرية لن ترشح رئيسا، ولن تدعم أي مرشح، ثم تكررت حيلة "فقه الضرورة" و"مرشح الضرورة"، من دون أن يخبرنا أحد، ماهي هذه "الضرورة" التي جعلت جماعة سياسية بهذا التنظيم وبهذا الجوهر الديني والاخلاقي تخون تعهداتها؟، وماهي "الضرورة" التي جعلت العمود الأهم في الدولة المصرية الحديثة يخالف بيان مبادئ علني تم إذاعته بلسان أكبر قائد فيه؟
أنا اعرف أن الضرورات تبيح المحظورات، لكن ألا يجب أن يحترمنا هؤلاء ويخبروننا عن تلك الضرورات التي تبيح الكذب والخداع ونكث العهود؟.
وهل يمكن إذا استمرت السياسة في بلدنا بهذا الأسلوب، أن يشعر المصري العاقل المحترم بأي نوع من "الثقة" في مثل هؤلاء القادة؟، هل يمكن أن أسمع كلام هؤلاء وأصدقهم مرة اخرى، وأنا أشك في التزامهم بكلمتهم؟
الأسئلة ليست صعبة، لأننا نعرف ونردد من زمان: "الراجل بكلمته"، وأنا وأنت ومصر كلها تحتاج بشدة لهذا النوع من الرجال، لنستعيد ثقتنا في الكلمة، وفي الوطن ورجاله أيضا.. وربنا يبعت