أميرة حسن دسوقى تكتب: كانيولا .. ليس عليك عبء سواك

كتب: اخبار الأربعاء 23-04-2014 21:42

إذا كنت مكان هذه العنكبوت الصغيرة الساكنة فى سقف غرفة شيماء، سترى كل ما فى الغرفة جامدًا تمامًا، ما عدا جسدها الذى تهزه يمينًا ويسارًا مشجعة إياه على النوم حتى انضمت بجسدها لباقى الجمادات، فأخذت العنكبوت الخطوة التى انتظرتها ساعات وانكمشت فى ركن السقف. فى الصباح أرسلت إلى هانى رسالة نصية على هاتفه تخبره أن نتيجة اختبار الحمل إيجابية، عليه أن يستعد لإيجاد مكان آمن للإجهاض.

ارتدت ملابسها، وتوجهت إلى المستشفى لتستلم من والدتها نوبة حراسة أبيها أثناء انتظاره للموت، جلست تتأمله وهو نائم، كالأخطبوط، تمده الأنابيب البلاستيكية بمصادر الحياة المؤقتة. دخلت الممرضة، قامت بتغيير الكانيولا فى ذراعه من دون أن تتبادل معها كلمة. ظلت شيماء تقرأ بجواره، مرت ساعات من دون أن تشعر بها، ثم استيقظ وناداها، اقتربت منه وأمسكت بيده على الرغم من أنها تعلم أنه لن يشعر بها، وابتسمت له، بدأت عضلات وجهه بالتشنج محاولًا أن يتحدث، ألصقت أذنها بشفتيه حتى تسمعه.

«إنه يجلس على صدرى كل يوم.. يحاول قتلى». قالها بصعوبة وهو ينظر إلى عين شيماء بإصرار. تنهدت ولم ترد، لم تفهم تلك الجملة التى يرددها كلما استيقظ ووجدها بجواره! أخبرها الطبيب أنه قد يصاب بهلاوس، ولكنه لم يهلوس بشىء ما عدا هذه الجملة، وعلى الرغم من الشلل الذى أصاب جسده، فإن عقله واع تمامًا، وكلما أدارت جهاز التسجيل بجواره على سورة «النجم»، السورة الأقرب إلى قلبه فى القرآن، يبتسم ويشرق وجهه العليل، نهضت لتشغلها له حتى تزيح عنه هذه الهلاوس.

كانت تلك السورة هى كلمة السر لدى أبيها منذ أن فتحت عينيها عليه، وكلما سألته: لماذا تلك السورة بالذات؟، كان يقول إن بها آية كلما سمعها انتفض جسده من نشوى تجلى الله فيها، ورفض أن يخبرها أى آية، معللًا خوفه بأن الله سيحرمه من هذه المتعة إذا أخبر بها أحدا، جلست بجواره تسمعها، فسرح بعينيه الدامعة خارج النافذة، قبَّلت وجنته وعادت للقراءة.

تجربة الإجهاض فى هذا التوقيت لم تكن تجربة سيئة لشيماء، أجواء موت أبيها بالبطىء جعلت كل الآلام مُحتملة، عادت إلى منزلها بعد إجراء العملية، متحاملة على نفسها، تقف على قدميها بصعوبة، كان عليها أن تذهب إلى المستشفى لأبيها حتى ترحل أمها، نامت ساعة واحدة، ثم جرَّت قدميها إلى المستشفى، حاصرتها أمها بالأسئلة عن سبب إجهادها، فتهربت منها بكل الوسائل الممكنة حتى رحلت، كان أبوها ما زال مستيقظًا، اقتربت منه وقبَّلته على وجنته، فطلب منها سورة «النجم»، وطلب منها أن تجلس بجواره، جلست تسمعها للمرة المائة، وفى لحظة ما لمحت الدموع تسيل من عينى أبيها بينما كان وجهه يبتسم، نظرت إليه غير فاهمة، ثم سألته مُسرعة:

- قاب قوسين أو أدنى.. تلك هى الآية؟

زادت دموعه فشاركته إياها واحتضنت رأسه، دخلت الممرضة فى تلك اللحظة، فاعتدلت شيماء فى جلستها، ومسحت دموعها، اطمأنت الممرضة على الكانيولا فى يده، ثم وضعت ذراعه على صدره وفردت الخرطوم الخارج من الكانيولا على طول الذراع. لاحظت شيماء أن النوم بدأ يأتى لأبيها، فقلَّلت الضوء وجلست بجواره ساكنة، بعد دقائق بدأت أنفاسه تتسارع، وكأنه يجاهد من أجل التقاطها، عقد حاجبيه وتقلَّصت ملامحه، كان يعانى من شىء ما لم تفهم ما هو، همَّت بالخروج من الغرفة لاستدعاء الطبيب، ولكن قبل أن تخرج، تسمَّرت مكانها، وانفجرت الدموع من عينيها عندما أدركت ما الذى يعنيه أبوها بقوله: «إنه يجلس على صدرى»، عادت إلى فراشه، وأزاحت ذراعه المشلولة التى وضعتها الممرضة على صدره بعد تثبيت الكانيولا بها.

أميرة حسن دسوقى

قاصة ومعدة أفلام وثائقية

حصلت مجموعتها القصصية

«بس يا يوسف»

على جائزة ساويرس