لم يكتب جابريل جارسيا ماركيز الذى غادر صفحة الحياة الخميس الماضى أعماله الأدبية لكنه كان يعزفها. فعل ذلك فى «مئة عام من العزلة».. تماماً كما صنع بإتقان فى «الحب فى زمن الكوليرا».. أو فى «خريف البطريرك».. كتابة تشبه نوتة الموسيقا أو هى أقرب.. كتابة خبيرة: أكتب عن وجوه أعرفها.. هكذا كان يقول.. يسرد أحداث الموت المعلن.. أو يحكى عن الجنرال فى متاهته أو عن غانياته الحزينات.. يعيش ليحكى.. أو كان يعيش ليحكى. الرثاء لا يفيد.. ما يفيد حقاً هو المتعة.. لذة الخلوة مع قصصه.. فدائماً لدى «جابو» من يكاتبه.. قارئ محتمل دائم.. يمكث فى مكان ما وبيده حكاية من حكاياته. هنا بعض من أفكار وأقوال ماركيز، الذى ترجمت معظم أعماله إلى العربية، وردت فى كتاب «ما جئت لإلقاء خطبة» ترجمة أحمد عبداللطيف (دار روافد) كما نقف عند حوار أجراه معه الصحفى شافى آيين ونشر فى كتاب «ثورة نوبل» (دار الثقافة للنشر والتوزيع).
لكننا نبدأ من كتاب جيرارلد مارتن «سيرة حياة جابرييل جارسيا ماركيز».. كاتب سيرته الرسمى، فماركيز نفسه كان متعاوناً معه فى سرد وقائع حياته وهكذا أجاز له مثل هذا العمل المضنى. يحكى مارتن فى كتابه الصادر عن (الدار العربية للعلوم، ترجمة د. محمد درويش) كيف عانى ماركيز فى السنوات الأخيرة من عمره حين ضُرب فى أعز ما يملك «ذاكرته»: «كانت لديه القدرة أن ينسى ما قاله قبل خمس دقائق (...) من الصعب جداً أن ترى إنساناً جعل من الذاكرة نقطة الارتكاز الرئيسية فى مجمل وجوده ابتلى بمثل هذا البلاء». لكن ينقل الكتاب رغم ذلك لقطات حية من زمن قريب عاش فيه ماركيز: 26 مارس 2007 فى مركز المؤتمرات بكارثاخينا، وفيه ألقى الكولومبى الأشهر خطاباً أمام الحضور على رأسهم بيل كلينتون الرئيس الأمريكى السابق، وخوان كارلوس ملك إسبانيا، عن ذكرياته العاطفية عن الأيام التى أمضاها فى المكسيك؛ حيث عاش مع رفيقته ميرثيدس فى الفقر آملاً أن يحقق نجاحاً باهراً يوماً ما.. قال: «لا أزال عاجزاً عن التغلب على دهشتى بأن كل هذا حدث لى» وفى نهاية المؤتمر التقاه كاتب سيرته ودار بينهما «أقصر حديث» كان «نهاية أشياء كثيرة»: مارتن: يالها من مناسبة رائعة يا جابو. ماركيز: أليس كذلك؟ ويرد مارتن: أتدرى؟ عدد كبير من الناس كانوا يبكون حولى. قال ماركيز: وأنا أيضاً بكيت، بكيت فى أعماقى. يرد مارتن: حسناً. أعرف أننى لن أنسى هذه المناسبة. ثم ينهى ماركيز الحديث: حسناً شىء جميل أنك كنت حاضراً فيها كى تخبر الناس أننا لم نفبرك القصة. ماركيز لا يفبرك القصص. إنما يحيك وقائعها الأسطورية كما لو كانت قد وقعت بالفعل. يكتب الفكرة التى تجول برأسه. هكذا نقرأ كلماته فى خطبه وأحاديثه الواردة فى كتابه «ما جئت لإلقاء خطبة» الذى ضم 22 خطبة ألقاها على مدار حياته فى مناسبات متنوعة. يقول ماركيز فى إحداها: مهنة الكاتب ربما تكون المهنة الوحيدة التى كلما مورست ازدادت صعوبتها.. لا أعرف مطلقاً كمية ما أكتبه ولا ماذا سأكتب. أنا أنتظر حتى يخطر شىء ببالى، وعندما تلوح لى فكرة وأقيّمها أنها جيدة للكتابة، أتركها تتجول فى رأسى وأدعها حتى تنضج. مرحلة اختمار القصة قد تستغرق عدة سنوات مثلما حدث فى مائة عام من العزلة: «حيث مرت تسع أو عشر سنوات وأنا أفكر فيها». لحظة ميلاد القصة هى أهم اللحظات: «ليس هناك أمتع فى الحكاية من ميلادها، تجولها فى الرأس، حركتها وتمردها، أما ساعة الجلوس لكتابتها فلا تهم كثيراً، أو على الأقل لا تهمنى أنا كثيراً». يعتبر ماركيز نفسه صانعاً للأساطير.. أساطير عالم مثالى أكثر إنسانية.. هكذا أشار فى حديثه فى استوكهولم لحظة تتويجه بجائزة نوبل للآداب: «شعرنا نحن خالقى الأساطير التى آمنا بها حق الاعتقاد، أنه لا يزال أمامنا الوقت لنبدع يوتوبيا مضادة».. يوتوبيا يكون فيها «الحب حقيقياً والسعادة ممكنة».
وفى حواره مع الصحفى شافى آيين الذى ضمنه كتابه «ثورة نوبل» والتقى فيه مع ستة عشر من كتاب نوبل للآداب وترجمه إلى العربية ناصر مرنجان قال ماركيز إن عام 2005 (عام إجراء الحوار) هو العام الأول فى حياته الذى لم يكتب فيه حرفاً «ليس عندى أى مشروع أو نية للقيام بمشروع. لم أتوقف يوماً عن الكتابة»..فى تلك الفترة، حلت القراءة عند نجم الكتابة الكولومبية محل الكتابة: «أستلقى فى سريرى لأقرأ! أقرأ كل الكتب التى لم أحظ يوماً بالوقت الكافى لقراءتها...أذكر أننى فيما مضى كنت أعانى ارتباكاً كبيراً حين لا أكتب، أياً كان السبب». تيقن «جابو» من خلال كلماته التى نقرؤها فى هذا الحوار الممتع أن دوره فى القص قد انتهى: الموتى الذين كانوا أبطال حكايات جدته توقفوا عن زيارته فى الحلم.. توقفوا عن إلهامه: «فى الحقيقة، لم أعد أستيقظ مرعوباً لأننى حلمت بالأموات الذين حدثتنى عنهم جدتى حين كنت صغيراً، وأعتقد أن لهذا علاقة بالأمر ذاته، بأن الموضوع قد انتهى بالنسبة إلىّ». لا نوافق ماركيز. رأى الذى تأكد برحيله. لو كان هو قد ذهب فإن كتبه هنا.. حاضرة. تشهد على عبقريته فى إمتاع القارئ. الكتب لا تموت.