نشرت «المصري اليوم» اليومين الماضيين تقريرين عن دينا عوفاديا، المجندة في وحدة الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، والتي تعمل على وسائل الإعلام العربية، وأصل التقريرين كان مقطع فيديو نشره المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، تتحدث فيه «عوفاديا»، وتقريرًا نشره الموقع الرسمي للجيش الإسرائيلي عن حياة رولين عبدالله في مصر، قبل أن تُصبح دينا عوفاديا في أعقاب هجرة أسرتها إلى إسرائيل.
لم أقتنع بكثير مما ذكره موقع الجيش الإسرائيلي والمجندة دينا عوفاديا وأفيخاي أدرعي، وأرى أن ما قالوه يتضمن من الكذب أكثر ما يتضمن من الصدق، إلا أنني تعلمت ألا أخلط الرأي بالخبر، وأن أنقل ما يُقال كما هو، فالصحفي ليس وصيًّا على عقول القراء، لكل منهم عقله الذي يستطيع أن يدرك به حقائق الأمور، والذي يستطيع أن يميز به بين الصدق والكذب، لذا نقلت ما قيل كما هو، متنصلًا منه بوضعه بين علامتي تنصيص، أما رأيي فأكتبه هنا في مساحة الرأي.
أولًا، وقبل كل شيء، لا أستطيع أن أكتب عن شيء ذي صلة من قريب أو من بعيد بيهود مصر دون أن أتطرق للمناضل الشيوعي المصري اليهودي شحاتة هارون، هذا الرجل الذي قاوم، كما قاومت أسرته من بعده ومن بينهم ماجدة هارون رئيسة الطائفة الحالية، كل المحاولات التي بُذلت في مصر سواء من قبل السلطة في فترةٍ ما، أو من قبل تيارات عنصرية لإجباره على ترك مصر والهجرة منها، أو المحاولات التي بذلها الجانب الآخر (الصهيوني) في محاولة لدفعه إلى الهجرة إلى إسرائيل، رفض الرجل التخلي عن وطنه الأول والأخير، مصر، ودفع ثمن ذلك جزءًا من حريته وكل حياة ابنته الأولى منى، حتى عندما مات، رفضت ماجدة كما رفضت مع شقيقتها نادية قبل شهرين، أن تستقدم حاخامًا من السفارة الإسرائيلية للصلاة عليه واستقدمت حاخامًا من فرنسا.
حديثي هنا ليس عن المصريين اليهود إذن، وإنما عن دينا عوفاديا، التي امتلأت قصتها التي سردتها عبر موقع الجيش الإسرائيلي بكثير من الفجوات والتناقضات والأمور التي لا تتناسب مع الوضع السياسي لمصر وقت وقوعها.
قد أتفهم إخفاء أسرة «رولين عبدالله» (اسمها في مصر) هويتها الدينية، أعرف أن مصريين يهودًا يخشون الإفصاح عن هويتهم الدينية خشية تعرضهم لمشاكل، بسبب حالة الكراهية لدى عديد من الأشخاص ضدهم، وهي الحالة التي تسببت فيها إسرائيل والجماعات المتأسلمة على حد سواء، ولكن ما لا أستطيع أن أتفهمه هو أن يقتحم سلفيون مسلحون في عام 2005 في ذروة قوة نظام مبارك منزلهم، فالمعروف عن السلفيين أنهم كانوا يخشون المواجهة والصدام في عهد مبارك.
كان من الممكن أن أتفهم ذلك في عقد التسعينيات، أما في 2005 حيث الهدنة مع نظام مبارك فلا يمكن أن يقبل عقلي دخول سلفيين وعلى أكتافهم بنادق لأحد المنازل وإطلاق الرصاص غير مرة، دون أن يلفت ذلك انتباه أحد الجيران ويبلغ الأمن، ولا يقبل عقلي أيضًا أن أشخاصًا مسلحين دخلوا منزلًا يبحثون فيه عن رجاله الذين لم يكونوا متواجدين فيه وقتها، ليخرجوا بعدها ويحاصروا المنزل، ويطلقوا أعيرة نارية في الهواء، وفجأة نجد الجد يجمع الأسرة كلها برجالها ونسائها، ويخبرهم أنهم يهود وأنهم سيهاجرون إلى إسرائيل، من أين أتى الرجال وكيف دخلوا المنزل من بين «الحصار السلفي»؟!.
والحقيقة أن المدعوة دينا عوفاديا استغلت ظهور الوجه الحقيقي للسلفيين بعد 25 يناير 2011، الذين بدأوا في حملات العنف والتكفير، ما دفع شعب مصر وخاصة الشباب أن يرفضوهم، ويروهم خطرًا على الثورة والوطن. استغلت دينا هذه الحالة لتقول لشباب مصر بين السطور: إن عدو عدوي صديقي، وإن أتباع من هدد شباب مصر بالسحق والقتل هم أنفسهم من هددوا أسرتها بذلك.
تتحدث الفتاة عن كيف أنها كانت تتعلم الكراهية في المدرسة تجاه اليهود والإسرائيليين، وكيف أنها كانت تتعلم الإنسانية في بيتها، وكيف أيضًا استقبلتها الوجوه في إسرائيل- بعد وصولها إليها- بابتسامة، تقول إن الحصص الدراسية والمواد كانت مليئة بالكراهية ضد إسرائيل واليهود، إلا أنها لم تتحدث في المقابل عن رؤية إسرائيل وممارستها للعرب والفلسطينيين، قد تكون مرت على ذلك بقولها إن مشاجرة نشبت بينها وبين طلاب إسرائيليين لاعتقادهم أنها عربية، إلا أنها كانت تحاول أن تخفي أن الأمر في إسرائيل لا يتوقف على ممارسات شخصية من طلاب صغار، وإنما تصل العنصرية إلى قمة الكيان، وتنضح العنصرية من مناهج التعليم، التي تملأ إسرائيل بها عقول طلابها بالعنصرية ضد كل ما هو عربي بشكل عام وفلسطيني بشكل خاص، وتملؤه أيضًا بالإحساس بالتفوق على جميع البشر، وأنهم شعب الله المختار، تمامًا كما كان الحكم النازي في ألمانيا يفعل، تقول أيضًا إنها تركت منزلها في الإسكندرية دون أن تأخذ منه شيئًا، ولم تقل لنا على أرض أي فلسطيني استقرت في القدس بعد طرده منها.
وأهم ما في الموضوع في وجهة نظري أن دينا عوفاديا تعمل على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بالجيش الإسرائيلي والناطقة باللغة العربية، وكانت تكتب أو ممن يكتبون كذبًا على هذه الصفحات أثناء الحرب الأخيرة على غزة، ويقولون إنهم لا يريدون إيذاء المدنيين وغير ذلك من دعاية كاذبة، وفي الحقيقة نحن لسنا أمام مجرد مجندة، يسميها الكاذب الرسمي للجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي «سندريلا»، وإنما نحن أمام كاذب رسمي جديد باسم الجيش يجري إعداده وتسويقه بين الجمهور العربي والمصري بقصص إنسانية مفبركة تُشعر من يقرؤها بالتعاطف معها، الأمر لن يكون تعاطفًا مع جندية، وإنما سيكون في المستقبل تعاطفًا مع الجيش الإسرائيلي نفسه.